الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****
1- البيع: مبادلة المال بالمال. وأمّا الموقوف فهو مشتقّ من " وقف " يقال: وقفت الدّابّة وقوفاً سكنت، ووقفتها أنا وقفاً: جعلتها تقف. ووقفت الدّار وقفاً حبستها في سبيل اللّه، ووقفت الأمر على حضور زيد: علّقت الحكم على حضوره، ووقفت قسمة الميراث إلى الوضع: أخّرتها حتّى تضع الحبلى. ولا يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللّفظ عن معانيه اللّغويّة. وأمّا البيع الموقوف، فقد عرّفه الفقهاء الّذين أجازوه بأنّه: البيع المشروع بأصله ووصفه، ويفيد الملك على وجه التّوقّف، ولا يفيد تمامه لتعلّق حقّ الغير به، وهو من البيع الصّحيح. ويقابله البيع النّافذ، وهو: البيع الصّحيح الّذي لا يتعلّق به حقّ الغير. ويفيد الحكم في الحال. فالنّافذ هو ضدّ الموقوف، فمتى قيل: بيع نافذ أريد به أنّه بيع غير موقوف.
2 - يرى الحنفيّة والمالكيّة، والحنابلة في إحدى الرّوايتين، وهو قول الشّافعيّة في المذهب القديم - كما حكي عن الجديد أيضاً - مشروعيّة البيع الموقوف واعتباره قسماً من أقسام البيع الصّحيح، لعمومات البيع نحو قوله تعالى {وأحَلَّ اللّه البيعَ} وقوله عزّ شأنه {يا أيّها الّذينَ آمنوا لا تَأْكُلوا أمْوالَكُمْ بينكمْ بالبَاطِلِ إلاّ أنْ تكُونَ تجارةً عن تراضٍ مِنْكُمْ} وجه الدّلالة من هذه الآيات: أنّ اللّه سبحانه وتعالى شرع البيع والشّراء والتّجارة من غير فصل، بين ما إذا وجد من المالك بطريق الأصالة، وبين ما إذا وجد من الوكيل في الابتداء، أو بين ما إذا وجدت الإجازة من المالك في الانتهاء وبين وجود الرّضا في التّجارة عند العقد أو بعده، فيجب العمل بعمومها إلاّ ما خصّ بدليل. ولما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم «أنّه دفع ديناراً إلى عروة البارقيّ رضي الله عنه، وأمره أن يشتري له أضحيّةً، فاشترى شاتين، ثمّ باع إحداهما بدينار، وجاء بدينار وشاة إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فدعا له بالبركة، وقال عليه الصلاة والسلام: بارك اللّه في صفقة يمينك» ومعلوم أنّه لم يكن مأموراً ببيع الشّاة، فلو لم ينعقد البيع الموقوف، لما باع ولما دعا له بالخير والبركة على ما فعل، ولأنكر عليه، لأنّ الباطل ينكر. كما أنّ البيع الموقوف تصرّف صدر من أهله في محلّه فلا يلغو، كما لو حصل من المالك، وكالوصيّة بالمال ممّن عليه الدّين، والوصيّة بأكثر من الثّلث ممّن لا دين عليه. والتّصرّف إذا صدر من أهله في محلّه تحقّق به وجوده، ثمّ قد يمتنع نفاذه شرعاً لمانع، فيتوقّف على زوال ذلك المانع، وبالإجازة يزول المانع، وهو عدم رضا المالك به. ولأنّ البيع الموقوف يفيد الملكيّة بدون قبض تماماً، كما هو الحكم في البيع الصّحيح، فالبيع الموقوف هو بيع صحيح لصدق تعريفه وحكمه عليه. وانعقاد هذا البيع موقوفاً على الإجازة لا ينافي كونه صحيحاً. 3 - وذهب الشّافعيّة على المشهور من المذهب، والحنابلة في إحدى الرّوايتين، وهو قول أبي ثور وابن المنذر إلى بطلان العقد الموقوف. واستدلّوا بحديث حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: «سألت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقلت: يأتيني الرّجل يسألني من البيع ما ليس عندي، أأبتاع له من السّوق ثمّ أبيعه منه ؟ قال: لا تبع ما ليس عندك». كما احتجّوا بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا بيع ولا طلاق ولا عتاق فيما لا يملك ابن آدم» ولأنّ وجود السّبب بكماله بدون آثاره يدلّ على فساده. ويقيسون البيع الموقوف على الطّلاق والعتاق
4 - عقد البيع يكون موقوفاً إذا تعلّق به حقّ الغير، وهو أن يكون ملك الغير أو يكون لغير المالك حقّ في المبيع. وقد حصر صاحب " الخلاصة " أنواع البيع الموقوف في خمسة عشر نوعاً، وأوصلها صاحب " النّهر " إلى ثمانية وثلاثين نوعاً، وذكر ابن نجيم في " البحر الرّائق " تسعاً وعشرين صورةً للبيع الموقوف أهمّها: - بيع الصّبيّ المحجور موقوف على إجازة الأب أو الوصيّ. - بيع غير الرّشيد موقوف على إجازة القاضي. - بيع المرهون موقوف على إجازة المرتهن. - بيع العين المستأجرة موقوف على إجازة المستأجر. - بيع ما في مزارعة الغير موقوف على إجازة المزارع. - بيع البائع للشّيء المبيع بعد القبض من غير المشتري موقوف على إجازة المشتري الأوّل. - بيع المرتدّ عند الإمام أبي حنيفة موقوف على توبته من الرّدّة. - بيع الشّيء برقمه موقوف على تبيّن الثّمن. - البيع بما باع به فلان والمشتري لا يعلم، فهو موقوف على العلم في المجلس. - البيع بمثل ما يبيع النّاس موقوف على تبيّن الثّمن. - البيع بمثل ما أخذ به فلان موقوف على تبيّن الثّمن. - بيع المالك العين المغصوبة موقوف على إقرار الغاصب، أو البرهان بعد إنكاره. - بيع مال الغير موقوف على إجازته (وهو بيع الفضوليّ). - بيع الشّريك نصيبه من مشترك بالخلط الاختياريّ، أو الاختلاط بغير فعل المالكين موقوف على إجازة شريكه. - بيع المريض مرض الموت عيناً من أعيان ماله لبعض ورثته، موقوف على إجازة باقي الورثة ولو كان بمثل القيمة عند أبي حنيفة. - بيع الوارث التّركة المستغرقة بالدّين موقوف على إجازة الغرماء. - أحد الوكيلين أو الوصيّين أو النّاظرين إذا باع بحضرة صاحبه يتوقّف على إجازته (إذا كان مشروطاً اجتماعهما على التّصرّف). - بيع المعتوه موقوف.
5 - حكم البيع الموقوف هو أنّه يقبل الإجازة عند توافر الشّروط الآتية: أ - وجود البائع حيّاً، لأنّه يلزمه حقوق العقد بالإجازة، ولا تلزم إلاّ حيّاً. ب - وجود المشتري حيّاً ليلزمه الثّمن، وبعد الموت لا يلزمه، ما لم يكن لزمه حال أهليّته. ج - وجود المبيع، لأنّ الملك لم ينتقل فيه، وإنّما ينتقل بعد الإجازة، ولا يمكن أن ينتقل بعد الهلاك. والمراد بكون المبيع قائماً، أن لا يكون متغيّراً بحيث يعدّ شيئاً آخر، فإنّه لو باع ثوب غيره بغير أمره، فصبغه المشتري، فأجاز المالك البيع جاز، ولو قطعه وخاطه ثمّ أجاز البيع لا يجوز، لأنّه صار شيئاً آخر. د - وجود الثّمن في يد البائع إذا كان عيناً كالعروض، أمّا إذا كان الثّمن ديناً كالدّراهم والدّنانير والفلوس فوجود الثّمن في يد البائع ليس بشرط. هـ - وجود المالك، لأنّ الإجازة تكون منه، حتّى لو مات المالك قبل إجازته البيع لا يجوز بإجازة ورثته كما يقول الحنفيّة. ويرى المالكيّة انتقال حقّ إجازة البيع الموقوف إلى الوارث. هذا، وللتّوسّع فيما تثبت به الإجازة وسائر المسائل المتعلّقة بها (ر: إجازة) وإذا أجيز البيع الموقوف يستند أثره (أي يسري منذ العقد) على ما سيأتي.
6 - البيع النّافذ يفيد الحكم في الحال، وهو ملكيّة البائع للثّمن والمشتري للمبيع، وتصرّف كلّ منهما فيما في يده من غير حاجة في ذلك إلى شيء آخر، سواء أذكر في العقد تملّك البائع للثّمن والمشتري للمبيع أم لم يذكر، لأنّ النّصّ على المقتضى بعد حصول الموجب ليس بشرط. ويشترط لنفاذ البيع أن يكون البائع مالكاً للمبيع، أو وكيلاً لمالكه أو وصيّه، وأن لا يكون في المبيع حقّ آخر. وإذا تخلّف شرط منها فإنّ العقد يكون موقوفاً فلا يفيد الحكم إلاّ عند إجازة صاحب الشّأن، فإن أجاز نفذ وإلاّ بطل. فقبل أن تصدر الإجازة ممّن يملكها لا يظهر أثر البيع الموقوف، ويكون ظهور أثره موقوفاً على الإجازة، فبيع الفضوليّ مثلاً لا ينفذ ابتداءً لانعدام الملك والولاية، لكنّه ينعقد موقوفاً على إجازة المالك، فإن أجاز ينفذ وإلاّ يبطل. (ر: بيع الفضوليّ) وكذلك إذا باع الرّاهن الرّهن بلا إذن المرتهن، فالبيع موقوف - في أصحّ الرّوايات عند الحنفيّة - لتعلّق حقّ المرتهن به فيتوقّف على إجازته، إن أجاز المرتهن أو قضى الرّاهن دينه نفذ، وإذا نفذ البيع بإجازة المرتهن انتقل حقّه إلى بدله. وللتّفصيل (ر: رهن). هذا، وينبغي التّنويه إلى أنّ البيع الموقوف لا يتوقّف دائماً نفاذه، وظهور أثره على إجازة شخص غير العاقد، بل هذا هو الأغلب، فقد يكون متوقّف النّفاذ لا على إجازة أحد، بل على زوال حالة أوجبت عدم النّفاذ، كما في بيع المرتدّ عن الإسلام، فإنّ نفاذ بيعه يتوقّف على عودته إلى الإسلام عند أبي حنيفة.
7 - التّصرّفات الواقعة على المعقود عليه في البيع الموقوف أثناء التّوقّف منها ما يستند أثره إلى وقت إنشاء العقد، ومنها ما يبدأ أثره من حين الإجازة. فالإجازة تارةً تكون إنشاءً، وتارةً تكون إظهاراً. وفيما يلي أمثلة لهذين النّوعين من التّصرّفات.
أوّلاً: التّصرّفات الّتي تستند إلى وقت إنشاء العقد: أ - إذا أجيز بيع الفضوليّ لمال الغير فإنّه يعتبر نافذاً مستنداً حكمه إلى وقت إنشاء العقد، فيصير المبيع ملكاً للمشتري، والثّمن ملكاً للممالك أمانةً في يد الفضوليّ، لأنّ الإجازة اللّاحقة بمنزلة الوكالة السّابقة. فإذا هلك الثّمن في يد الفضوليّ قبل الإجازة، ثمّ أجيز العقد لم يضمنه كالوكيل، وكذلك إذا حطّ البائع الفضوليّ من الثّمن ثمّ أجاز المالك البيع يثبت البيع والحطّ، سواء أعلم البائع بالحطّ أم لم يعلم، إلاّ أنّه إذا علم بالحطّ بعد الإجازة يثبت له الخيار. ووجه ذلك أنّ الفضوليّ يصير بالإجازة كوكيل، ولو حطّه الوكيل لا يتمكّن الموكّل من مطالبة المشتري به، كذا هذا. ب - إذا أجاز المالك البيع الموقوف، فإن ملك المبيع يثبت للمشتري من وقت الشّراء، ويثبت له بالتّالي الحقّ في كلّ ما يحدث بالمبيع قبل الإجازة من نماء أو زيادة، كالكسب والولد والأرش وما إلى ذلك.
ثانياً: التّصرّفات الّتي يقتصر حكمها على وقت صدور الإجازة: أ - لا يجوز للمشتري من الفضوليّ التّصرّف في المبيع قبل صدور الإجازة، سواء أقبضه أم لم يقبضه. فإذا باع المشتري من الفضوليّ المبيع من غيره، ثمّ أجاز المالك بيع الفضوليّ لا ينفذ بيع المشتري من الفضوليّ، كما يقول الحنفيّة، لأنّ المشتري من الفضوليّ لم يملك ما اشتراه إلاّ بعد الإجازة، فبيعه وقع على ما لم يملك. ب - إذا باع الفضوليّ شيئاً مملوكاً لغيره، فإنّ طلب الشّفعة في الشّيء الّذي باعه يكون وقت الإجازة.
1 - وردت في الشّريعة الإسلاميّة نصوص شرعيّة تقرّر للعقود آثارها، ووردت فيها نصوص أخرى، بعضها عامّ، وبعضها خاصّ، فيما يتّصل بمبلغ حقّ المتعاقدين في تعديل آثار العقود، بالإضافة عليها، أو النّقص منها، وذلك بشروط يشترطانها في عقودهما. ففي القرآن الكريم، ورد قوله تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا أوْفوا بالعقود}، وقوله تعالى: {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطلِ، إلاّ أنْ تكونَ تجارةً عن تراضٍ منكم}. وفي السّنّة النّبويّة ورد حديث: «... المسلمون على شروطهم، إلاّ شرطاً حرّم حلالاً» وفي رواية: «عند شروطهم»، وحديث: «مقاطع الحقوق عند الشّروط»، وحديث: «ما كان من شرط ليس في كتاب اللّه، فهو باطل» أي ليس فيما كتبه اللّه وأوجبه في شريعته الّتي شرعها. وحديث: عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه، «عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه: نهى عن بيع وشرط». فهذه النّصوص - في مجموعها - تشير إلى أنّ هناك: شروطاً مباحةً للمتعاقدين، يتخيّرون منها ما يشاءون للالتزام بها في عقودهما، وشروطاً محظورةً، لا حقّ لأحد من المتعاقدين في اشتراطها في عقودهما، لما أنّها تناقض المقصود، أو تخالف القواعد العامّة الشّرعيّة، أو تصادم مقصداً من مقاصد الشّريعة. وفيما يلي تفصيل مذاهب الفقهاء في البيع والشّرط، كلّ مذهب على حدة للاختلاف الشّديد بينها في ذلك.
أوّلاً: مذهب الحنفيّة: 2 - وضع الحنفيّة هذا الضّابط للشّرط المنهيّ عنه، الّذي يفسد العقد، وهو: كلّ شرط لا يقتضيه العقد، ولا يلائمه وفيه نفع لأحدهما، أو لأجنبيّ، أو لمبيع هو من أهل الاستحقاق، ولم يجر العرف به. ولم يرد الشّرع بجوازه. 3 - أمّا إذا كان الشّرط ممّا يقتضيه العقد، أي يجب بالعقد من غير شرط، فإنّه يقع صحيحاً، ولا يوجب فساد البيع. كما إذا اشترى بشرط أن يتملّك المبيع، أو باع بشرط أن يتملّك الثّمن، أو باع بشرط أن يحبس المبيع لاستيفاء الثّمن، أو اشترى على أن يسلّم إليه المبيع، أو اشترى دابّةً على أن يركبها، أو ثوباً على أن يلبسه، أو حنطةً في سنبلها وشرط الحصاد على البائع، ونحو ذلك، فالبيع جائز لأنّ البيع يقتضي هذه المذكورات من غير شرط، فكان ذكرها في معرض الشّرط تقريراً لمقتضى العقد، فلا توجب فساد العقد. 4 - وكذلك إذا كان الشّرط ملائماً للعقد، بأن يؤكّد موجبه، فإنّه لا يفسد العقد، ولو كان لا يقتضيه العقد، لأنّه يقرّر حكمه من حيث المعنى ويؤكّده، فيلتحق بالشّرط الّذي هو من مقتضيات العقد، كشرط رهن معلوم بالإشارة أو التّسمية، وشرط كفيل حاضر قبل الكفالة، أو غائب فحضر وقبلها قبل التّفرّق. واشتراط الحوالة كالكفالة، فلو باع على أن يحيل المشتري البائع على غيره بالثّمن، قالوا: فسد قياساً، وجاز استحساناً. لكنّ الكاسانيّ اعتبر شرط الحوالة مفسداً، لأنّه لا يقتضيه العقد، ولا يقرّر موجبه، لأنّ الحوالة إبراء عن الثّمن وإسقاط له، فلم يكن ملائماً للعقد، بخلاف الكفالة والرّهن. 5- ويشمل شرط المنفعة عندهم ما يأتي: أ - أن يكون شرط المنفعة لأحد المتعاقدين: كما إذا باع داراً على أن يسكنها البائع شهراً، ثمّ يسلّمها إليه، أو أرضاً على أن يزرعها سنةً، أو دابّةً على أن يركبها شهراً، أو ثوباً على أن يلبسه أسبوعاً، أو على أن يقرضه المشتري قرضاً، أو على أن يهبه هبةً، أو يزوّجه ابنته، أو يبيع منه كذا، ونحو ذلك، أو اشترى ثوباً على أن يخيطه البائع قميصاً، أو حنطةً على أن يطحنها، أو ثمرةً على أن يجذّها، أو شيئاً له حمل ومؤنة على أن يحمله البائع إلى منزله، ونحو ذلك. فالبيع في هذا كلّه فاسد، لأنّ زيادة منفعة مشروطة في البيع تكون رباً، لأنّها زيادة لا يقابلها عوض في عقد البيع، وهو تفسير الرّبا، والبيع الّذي فيه الرّبا فاسد، أو فيه شبهة الرّبا، وإنّها مفسدة للبيع، كحقيقة الرّبا. ب - ويشمل ما إذا كانت المنفعة لأجنبيّ، كما إذا باع ساحةً على أن يبني فيها مسجداً، أو طعاماً على أن يتصدّق به، فهو فاسد، وإن يكن في مذهب الحنفيّة قولان في اشتراط القرض ونحوه من المنفعة لأجنبيّ. ج - ويشمل ما إذا كانت المنفعة للمعقود عليه، كما لو باع جاريةً على أن يوصي المشتري بعتقها، فالبيع فاسد، لأنّه شرط فيه منفعةً للمبيع، وإنّه مفسد. وكذا لو شرط عليه أن يعتقها في ظاهر الرّواية. وكذا لو شرط عليه أن لا يبيعها أو لا يهبها، لأنّ المملوك يسرّه أن لا تتداوله الأيدي. وروى الحسن عن الإمام أبي حنيفة جواز اشتراط الإعتاق على المشتري. أمّا ما لا منفعة فيه لأحد فلا يتناوله الشّرط المذكور، ولا يوجب الفساد، كما لو باعه ثوباً وشرط عليه أن لا يبيعه، أو لا يهبه، أو باعه دابّةً على أن لا يبيعها، أو طعاماً على أن يأكله ولا يبيعه، فهذا شرط لا منفعة فيه لأحد، فلا يوجب في الصّحيح الفساد، لأنّ الفساد في مثل هذه الشّروط - كما يقول الكاسانيّ - لتضمّنها الرّبا بزيادة منفعة مشروطة لا يقابلها عوض، ولم يوجد في هذا الشّرط، لأنّه لا منفعة فيه لأحد، ولا مطالب له به، فلا يؤدّي إلى الرّبا، ولا إلى المنازعة، فالعقد جائز، والشّرط باطل. 6- أمّا ما فيه مضرّة لأحدهما، كما لو باع الثّوب بشرط أن يخرقه المشتري، أو الدّار على أن يخرّبها، فالبيع جائز، والشّرط باطل، لأنّ شرط المضرّة لا يؤثّر في البيع. ونقل ابن عابدين أنّ هذا مذهب محمّد. ومذهب أبي يوسف هو فساد البيع. وما لا مضرّة ولا منفعة فيه لأحد، فهو جائز، كما لو اشترى طعاماً بشرط أكله، أو ثوباً بشرط لبسه. 7- واستثنى الحنفيّة من شرط المنفعة المفسد، ما جرى به العرف، وتعامل به النّاس من غير إنكار، ومثّلوا له بشراء حذاء بشرط أن يضع له البائع نعلاً (أو كعباً) أو القبقاب بشرط أن يسمّر له البائع سيراً، أو صوفاً منسوجاً ليجعله له البائع قلنسوةً (أو معطفاً) أو اشترى قلنسوةً بشرط أن يجعل لها البائع بطانةً من عنده، أو خفّاً أو ثوباً خلقاً على أن يرقّعه أو يرفوه له البائع. فهذا ونحوه من الشّروط الجائزة عند الحنفيّة، فيصحّ البيع بها، ويلزم الشّرط استحساناً، للتّعامل الّذي جرى به عرف النّاس. والقياس فساده - كما يقول زفر - لأنّ هذه الشّروط لا يقتضيها العقد، وفيها نفع لأحد المتعاقدين، وهو المشتري هنا، لكنّ النّاس تعاملوها، وبمثله يترك القياس. 8- ونصّ ابن عابدين - رحمه الله - على اعتبار العرف الحادث. فلو حدث عرف في غير الشّرط المذكور في بيع الثّوب بشرط رفوه، والنّعل بشرط حذوه، يكون معتبراً، إذا لم يؤدّ إلى المنازعة. ونقل ابن عابدين - رحمه الله - عن المنح، أنّه لا يلزم من اعتبار العرف في هذه الحال أن يكون قاضياً على حديث: «نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط» لأنّ الحديث معلّل بوقوع النّزاع المخرج للعقد عن المقصود به، وهو قطع المنازعة، والعرف ينفي النّزاع، فكان موافقاً لمعنى الحديث، فلم يبق من الموانع إلاّ القياس، والعرف قاض عليه. 9- كما يستثنى من شرط مخالفة اقتضاء العقد، ما ورد به الشّرع، وهذا كشرط الأجل في دفع الثّمن، لحاجة النّاس إلى ذلك، لكنّه يشترط أن يكون معلوماً لئلاّ يفضي إلى النّزاع. وكذا شرط الخيار في البيع، لأنّه ثبت في حديث حبّان بن منقذ رضي الله عنه المعروف: «إذا بايعت فقل لا خلابة ثمّ أنت بالخيار في كلّ سلعة ابتعتها ثلاث ليال، فإن رضيت فأمسك، وإن سخطت فاردد». وقد عدّد الحنفيّة اثنين وثلاثين موضعاً لا يفسد فيها البيع بالشّرط. 10 - وهل يشترط اقتران الشّرط الفاسد بالعقد ؟ وما حكم التّنصيص على الشّرط بعد العقد، وما حكم ابتناء العقد عليه ؟ أ – أمّا التحاقه بالعقد بعد الافتراق عن المجلس، ففيه روايتان مصحّحتان في المذهب: إحداهما عن أبي حنيفة: أنّه يلتحق بأصل العقد، والأخرى عن الصّاحبين – وهي الأصحّ – أنّه لا يلتحق. وأيّدت هذه الرّواية: بما لو باع مطلقاً، ثمّ أجّل الثّمن، فإنّه يصحّ التّأجيل، لأنّه في حكم الشّرط الفاسد، وبما لو باعا بلا شرط، ثمّ ذكرا الشّرط على وجه الوعد، جاز البيع، ولزم الوفاء بالوعد، إذ المواعيد قد تكون لازمةً، فيجعل لازماً لحاجة النّاس. وبما لو تبايعا بلا ذكر شرط (الوفاء) ثمّ شرطاه، يكون من قبيل بيع الوفاء، إذ الشّرط اللّاحق يلتحق بأصل العقد، عند أبي حنيفة لا عند صاحبيه، والصّحيح أنّه لا يشترط لالتحاقه مجلس العقد. ب - وأمّا ابتناء العقد على الشّرط الفاسد، كما لو شرطا شرطاً فاسداً قبل العقد، ثمّ عقدا العقد، فقد نقل ابن عابدين عن جامع الفصولين عدم فساد العقد، لكنّه حقّق ابتناء الفساد لو اتّفقا على بناء العقد عليه، وذلك: بالقياس على ما صرّحوا به في بيع الهزل. وبالقياس على ما أفتى به الرّمليّ - نقلاً عن كتب المذهب - في رجلين تواضعا على بيع الوفاء قبل عقده، وعقدا البيع خالياً عن الشّرط: بأنّه يكون على ما تواضعا عليه. ثانياً: مذهب المالكيّة: 11 - فصّل المالكيّة في الشّرط الّذي يتصوّر حصوله عند البيع، فقالوا: إنّه إمّا أن لا يقتضيه العقد وينافي المقصود منه. وإمّا أن يخلّ بالثّمن. وإمّا أن يقتضيه العقد، وإمّا أن لا يقتضيه ولا ينافيه. فالّذي يضرّ بالعقد ويبطله هو الشّرط الّذي فيه مناقضة المقصود من البيع، أو إخلال بالثّمن، وهذا عندهم محمل حديث «نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط»، دون الأخيرين. فمثال الأوّل، وهو الّذي لا يقتضيه العقد وينافي المقصود منه - ووصفه ابن جزيّ: بالّذي يقتضي التّحجير على المشتري - أن يشترط البائع على المشتري أن لا يبيع السّلعة لأحد أصلاً، أو إلاّ من نفر قليل، أو لا يهبها، أو لا يركبها، أو لا يلبسها، أو لا يسكنها، أو لا يؤاجرها، أو على أنّه إن باعها من أحد فهو أحقّ بالثّمن. أو يشترط الخيار إلى أمد بعيد. ففي هذه الأحول كلّها يبطل الشّرط والبيع. 12 - واستثنى المالكيّة من منافاة الشّرط مقتضى العقد بعض الصّور: الأولى: أنّه لو طلب البائع من المشتري الإقالة، فقال له المشتري: على شرط إن بعتها غيري فأنا أحقّ بها بالثّمن. فهذه الصّورة مستثناة من عدم البيع من أحد، وهي مع ذلك جائزة عندهم، لأنّه يغتفر في الإقالة ما لا يغتفر في غيرها. الثّانية: أن يشترط البائع على المشتري أن يقف المبيع، أو أن يهبه، أو أن يتصدّق به على الفقراء، فهذه من الجائزات، لأنّها من ألوان البرّ الّذي يدعو إليه الشّرع. الثّالثة: أن يبيع أمةً بشرط تنجيز عتقها، فإنّه جائز، وإن كان منافياً لمقتضى العقد، وهذا لتشوّف الشّارع إلى الحرّيّة، بخلاف اشتراط التّدبير والكتابة، واتّخاذ الأمة أمّ ولد، فإنّه لا يجوز، لما فيه من التّضييق على المشتري. 13 - أمّا الشّرط الثّاني، وهو الإخلال بالثّمن، فهو مصوّر بأمرين: الأوّل: الجهل بالثّمن، وهذا يتمثّل بالبيع بشرط السّلف، أي القرض من أحدهما للآخر. فإن كان شرط السّلف صادراً من المشتري، أخلّ ذلك بالثّمن، لأنّه يؤدّي إلى جهل في الثّمن، بسبب الزّيادة، لأنّ انتفاعه بالسّلف من جملة الثّمن، وهو مجهول. وإن كان شرط السّلف صادراً من البائع، أخلّ ذلك بالثّمن، لأنّه يؤدّي إلى جهل في الثّمن، بسبب النّقص، لأنّ انتفاعه بالسّلف من جملة المثمّن، وهو مجهول. الآخر: شبهة الرّبا، لأنّ البيع بشرط السّلف، يعتبر قرضاً جرّ نفعاً: فإن كان المشتري هو المقترض، صار المقرض له هو البائع، فينتفع البائع بزيادة الثّمن - وإن كان البائع هو المقترض، صار المقرض له هو المشتري، فينتفع المشتري بنقص الثّمن. وقد صرّح ابن جزيّ في هذا الصّدد بأنّ اشتراط السّلف من أحد المتبايعين لا يجوز بإجماع. 14 - أمّا الشّرط الثّالث، وهو الّذي يقتضيه العقد، فهو كشرط تسليم المبيع إلى المشتري، والقيام بالعيب، وردّ العوض عند انتقاض البيع، فهذه الأمور لازمة دون شرط، لاقتضاء العقد إيّاها، فشرطها تأكيد - كما يقول الدّسوقيّ. 15 - وأمّا الرّابع من الشّروط، فهو كشرط الأجل المعلوم، والرّهن، والخيار، والحميل (أي الكفيل) فهذه الشّروط لا تنافي العقد، ولا يقتضيها، بل هي ممّا تعود عليه بمصلحة، فإن شرطت عمل بها، وإلاّ فلا. وصحّحوا اشتراط الرّهن، ولو كان غائباً، وتوقّف السّلعة حتّى يقبض الرّهن الغائب. أمّا اشتراط الكفيل الغائب فجائز إن قربت غيبته، لا إن بعدت، لأنّه قد يرضى وقد يأبى، فاشترط فيه القرب. 16 - وقد عرض ابن جزيّ لصور من الشّرط، تعتبر استثناء، أو ذات حكم خاصّ، منها هذه الصّورة، وهي: ما إذا شرط البائع منفعةً لنفسه، كركوب الدّابّة أو سكنى الدّار مدّةً معلومةً، فإنّ البيع جائز، والشّرط صحيح. فيبدو أنّ هذا كالاستثناء من التّفصيل الرّباعيّ المتقدّم. ودليله حديث جابر المعروف وهو: «أنّه كان يسير على جمل له، قد أعيا، فأراد أن يسيّبه. قال: ولحقني النّبيّ صلى الله عليه وسلم فدعا لي، وضربه، فسار سيراً لم يسر مثله، فقال: بعنيه، فقلت: لا. ثمّ قال: بعنيه، فبعته، واستثنيت حملانه إلى أهلي» وفي رواية: «وشرطت ظهره إلى المدينة». ويبدو أنّ هذا شرط جائز عند كثيرين، فقد علّق الشّوكانيّ على هذا الحديث بقوله: وهو يدلّ على جواز البيع مع استثناء الرّكوب، وبه قال الجمهور، وجوّزه مالك إذا كانت مسافة السّفر قريبةً، وحدّها بثلاثة أيّام. وقال الشّافعيّ وأبو حنيفة وآخرون: لا يجوز ذلك، سواء أقلّت المسافة أم كثرت. والحديث - وإن كان في الانتفاع اليسير بالمبيع إذا كان ممّا يركب من الحيوان - لكنّ المالكيّة قاسوا عليه الانتفاع اليسير بكلّ مبيع بعد بيعه، على سبيل الاستمرار، تيسيراً، نظراً لحاجة البائعين. 17 - والجدير بالذّكر عند المالكيّة، هو أنّه: إن أسقط الشّرط المخلّ بالعقد، سواء أكان شرطاً يناقض المقصود من البيع كاشتراط عدم بيع المبيع، أم كان شرطاً يخلّ بالثّمن كاشتراط السّلف من أحد المتبايعين، فإنّه يصحّ البيع. ولا يشترط في هذه الحال سوى أن يكون الإسقاط مع قيام السّلعة. فقد علّل الخرشيّ صحّة البيع هنا، بحذف شرط السّلف، بقوله: لزوال المانع. 18 - وهل يستوي الحكم في الإسقاط، في مثل شرط القرض، بين أن يكون قبل التّمكّن من الانتفاع به، وبين أن يكون بعد التّمكّن ؟ قولان لهم في المسألة: أ - فمشهور المذهب، وهو قول ابن القاسم، أنّه: إذا ردّ القرض على المقرض، والسّلعة قائمة، صحّ البيع، ولو بعد غيبة المقترض على القرض غيبةً يمكنه الانتفاع به. ب - وقول سحنون وابن حبيب، هو: أنّ البيع ينقض مع الغيبة على القرض، ولو أسقط شرط القرض، لوجود موجب الرّبا بينهما، أو لتمام الرّبا بينهما - كما عبّر الشّيخ الدّردير - فلا ينفع الإسقاط. والمعتمد الأوّل عند الدّردير، كما صرّح به، ومال الدّسوقيّ إلى الآخر، كما يبدو من كلامه ونقله الآخر، فقد حكى تشهيره، وكذا الّذي يبدو من كلام العدويّ. وهنا سؤالان يطرحان: 19 - السّؤال الأوّل: ما الّذي يلزم لو وقع البيع بشرط القرض، وهو الشّرط المخلّ بالثّمن، وفاتت السّلعة عند المشتري، بمفوّت البيع الفاسد (كما لو هلكت) سواء أسقط مشترط الشّرط شرطه، أم لم يسقطه ؟ وفي الجواب أقوال: الأوّل: وهذا في المدوّنة - إمّا أن يكون المقرض هو المشتري أو البائع: أ - فإن كان المشتري هو الّذي أقرض البائع، فإنّ المشتري يلزمه الأكثر من الثّمن الّذي وقع به البيع، ومن القيمة يوم القبض. فإذا اشتراها بعشرين والقيمة ثلاثون، لزمه ثلاثون. ب - وإن كان البائع هو الّذي أقرض المشتري، فعلى المشتري للبائع الأقلّ من الثّمن ومن القيمة، فيلزمه في المثال المذكور عشرون، لأنّه أقرض ليزداد، فعومل بنقيض قصده. الثّاني: يقابل الّذي في المدوّنة، وهو لزوم القيمة مطلقاً، سواء أكان المسلّف هو البائع أم المشتري. الثّالث: أنّ تغريم المشتري الأقلّ، إذا اقترض من البائع محلّه إذا لم يغب على ما اقترضه، وإلاّ لزمه القيمة بالغةً ما بلغت. وهذا كلّه إذا كان المبيع قيميّاً، فإن كان مثليّاً، فإنّما يجب فيه المثل، لأنّه كعينه، فلا كلام لواحد، فهو بمثابة ما لو كان قائماً، وردّ بعينه. السّؤال الثّاني: 20 - ما الّذي يلزم، لو وقع البيع بشرط مناقض للمقصود، وفاتت السّلعة عند المشتري، سواء أأسقط ذلك الشّرط، أم لم يسقط ؟ قالوا: الحكم هو: أنّ للبائع الأكثر من قيمتها يوم القبض ومن الثّمن، لوقوع البيع بأنقص من الثّمن المعتاد، لأجل الشّرط. ثالثاً: مذهب الشّافعيّة: 21 - التزم الشّافعيّة نهي الشّارع عن بيع وشرط في الحديث المتقدّم. والتزموا حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحلّ سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك» ولم يستثنوا إلاّ ما ثبت استثناؤه بالشّرع، وقليلاً ممّا رأوا أنّه من مقتضيات العقد أو مصالحه، فكان مذهبهم بذلك أضيق المذاهب الثّلاثة. ومع ذلك، فقد قسّم بعضهم الشّرط، فقال: الشّرط إمّا أن يقتضيه مطلق العقد، كالقبض والانتفاع والرّدّ بالعيب، أوْ لا. فالأوّل: لا يضرّ بالعقد. والثّاني - وهو الّذي لا يقتضيه العقد - إمّا أن يتعلّق بمصلحة العقد، كشرط الرّهن، والإشهاد والأوصاف المقصودة - من الكتابة والخياطة والخيار ونحو ذلك - أوْ لا. فالأوّل: لا يفسده، ويصحّ الشّرط نفسه. والثّاني: - وهو الّذي لا يتعلّق بمصلحة العقد - إمّا أن لا يكون فيه غرض يورث تنازعاً، كشرط أن لا تأكل الدّابّة المبيعة إلاّ كذا، فهو لاغ، والعقد صحيح. وإمّا أن يكون فيه غرض يورث تنازعاً، فهذا هو الفاسد المفسد، كالأمور الّتي تنافي مقتضاه، نحو عدم القبض، وعدم التّصرّف وما أشبه ذلك. وخلاصة هذا التّقسيم: - 1 - أنّ اشتراط ما يقتضيه العقد، أو يتعلّق بمصلحته أو بصحّته، صحيح. - 2 - وأنّ اشتراط ما لا غرض فيه لاغ، ولا يفسد العقد. - 3 - وأمّا اشتراط ما فيه غرض يورث تنازعاً، فهو الشّرط المفسد، وذلك كاشتراط ما يخالف مقتضاه. 22 - ومن أهمّ ما نصّوا عليه تطبيقاً للحديثين ولهذا التّقسيم: - 1 - البيع بشرط بيع، كأن يقول: بعتك هذه الأرض بألف، على أن تبيعني دارك بكذا، أو تشتري منّي داري بكذا، فهذا شرط فاسد مفسد، لا يقتضيه العقد. - 2 - البيع بشرط القرض، كأن يبيعه أرضه بألف، بشرط أن يقرضه مائةً، ومثل القرض الإجارة، والتّزويج، والإعارة. - 3 - شراء زرع بشرط أن يحصده البائع، أو ثوب بشرط أن يخيطه، ومنه كما يقول عميرة البرلّسيّ: شراء حطب بشرط أن يحمله إلى بيته، فالمذهب في هذا وأمثاله بطلان الشّراء، لاشتماله على شرط عمل فيما لم يملكه بعد، وذلك فاسد، ولأنّه - كما قال الإسنويّ - شرط يخالف مقتضى العقد، فيبطل البيع والشّرط في الأصحّ. وإن يكن عندهم قولان آخران في هذه الجزئيّة: أحدهما: أنّه يصحّ البيع، ويلزم الشّرط، وهو في المعنى بيع وإجارة، ويوزّع المسمّى عليهما باعتبار القيمة. وثانيهما: يبطل الشّرط، ويصحّ البيع بما يقابل المبيع من المسمّى. 23 - واستثنى الشّافعيّة مسائل معدودةً من النّهي صحّحوها مع الشّرط وهي: أ - البيع بشرط الأجل المعيّن، لقوله تعالى: {إذا تداينتم بِدَيْنٍ إلى أجلٍ مسمًّى فاكْتبوه} ب - البيع بشرط الرّهن، وقيّدوه بالمعلوميّة. ج - البيع بشرط الكفيل المعلوم أيضاً، لعوض ما، من مبيع أو ثمن ثابت في الذّمّة، وذلك للحاجة إليهما في معاملة من لا يرضى إلاّ بهما. د - الإشهاد على جريان البيع، للأمر به في الآية قال تعالى: {وأَشْهدوا إذا تَبَايَعْتُم}. هـ - البيع بشرط الخيار، لثبوته بحديث حبّان بن منقذ، المعروف. 24 - البيع بشرط عتق المبيع، وفيه أقوال عندهم: القول الأوّل: وهو أصحّها، أنّ الشّرط صحيح، والبيع صحيح، وذلك لحديث عائشة رضي الله عنها، «أنّها أرادت أن تشتري بريرة للعتق، فاشترطوا ولاءها، فذكرت ذلك لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال: اشتريها وأعتقيها، فإنّما الولاء لمن أعتق ولم ينكر النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّ شرط الولاء لهم، إذ قال: ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب اللّه ؟ من اشترط شرطاً ليس في كتاب اللّه فهو باطل» ولأنّ استعقاب البيع العتق عهد في شراء القريب، فاحتمل شرطه. ولتشوّف الشّارع للعتق. على أنّ فيه منفعةً للمشتري، دنيا بالولاء، وأخرى بالثّواب، وللبائع بالتّسبّب فيه. القول الثّاني: أنّ الشّرط باطل والبيع باطل، كما لو شرط بيعه أو هبته. والقول الثّالث: أنّه يصحّ البيع، ويبطل الشّرط. 25 - وممّا استثناه الشّافعيّة أيضاً من النّهي: شرط الولاء لغير المشتري مع العتق، في أضعف القولين عندهم، فيصحّ البيع ويبطل الشّرط، لظاهر حديث بريرة في بعض رواياته، «وقوله - عليه الصلاة والسلام - لعائشة رضي الله عنها: واشترطي لهم الولاء». لكنّ الأصحّ بطلان الشّرط والبيع في هذه الحال، لما تقرّر في الشّرع، من أنّ الولاء لمن أعتق. فأجاب هؤلاء عن حديث عائشة «واشترطي لهم الولاء» بأنّ الشّرط لم يقع في عقد البيع، وبأنّه خاصّ بقضيّة عائشة، وبأنّ قوله: «لهم» بمعنى: عليهم 26 - وممّا استثنوه أيضاً: شرط البراءة من العيوب في المبيع، لأنّه يحتاج البائع فيه إلى شرط البراءة، ليثق بلزوم البيع فيما لا يعلمه من الخفيّ، دون ما يعلمه، مطلقاً في حيوان أو غيره، فالبيع مع الشّرط المذكور صحيح مطلقاً، سواء أصحّ الشّرط أم لم يصحّ، لأنّه شرط يؤكّد العقد، ويوافق ظاهر الحال، وهو السّلامة من العيوب. وتأيّد هذا بما روي أنّ ابن عمر رضي الله عنهما:" باع عبداً له بثمانمائة درهم، بالبراءة فقال له المشتري: به داء لم تسمّه لي. فاختصما إلى عثمان رضي الله عنه فقضى على ابن عمر أن يحلف: لقد باعه العبد وما به داء يعلمه، فأبى أن يحلف، وارتجع العبد، فباعه بألف وخمسمائة ". قالوا: فدلّ قضاء عثمان المشهور بين الصّحابة على جواز اشتراط البراءة من العيب، وهو مشهور بين الصّحابة، فصار من الإجماع السّكوتيّ. 27 - وممّا استثنوه أيضاً: أ - شرط نقل المبيع من مكان البائع، قالوا: لأنّه تصريح بمقتضى العقد. ب - شرط قطع الثّمار أو تبقيتها بعد صلاحها ونضجها، فهو جائز في عقد البيع، كما أنّه جائز بيعها بعد النّضج مطلقاً من الشّرط. لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما، «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثّمار حتّى يبدو صلاحها». وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: «قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لا تتبايعوا الثّمار حتّى يبدو صلاحها» فالحديث يدلّ على جواز بيع الثّمر بعد بدو صلاحه، وهو صادق بكلّ الأحوال الثّلاثة: بيعه من غير شرط، وبشرط قطعه، وبشرط إبقائه. ج - شرط أن يعمل البائع عملاً معلوماً في المبيع، كما لو اشترى ثوباً بشرط أن يخيطه البائع، في أضعف أقوال ثلاثة، وقد تقدّمت. د - اشتراط وصف مقصود في المبيع عرفاً، ككون الدّابّة حاملاً أو ذات لبن، فالشّرط صحيح، وللمشتري الخيار إن تخلّف الشّرط. قالوا: ووجه الصّحّة: أنّ هذا الشّرط يتعلّق بمصلحة العقد. ولأنّه التزام موجود عند العقد ولا يتوقّف التزامه على إنشاء أمر مستقبل، ذاك الّذي هو حقيقة الشّرط، فلم يشمله النّهي عن بيع وشرط. هـ - اشتراط أن لا يسلّم المبيع حتّى يستوفي الثّمن. و - شرط الرّدّ بالعيب، لأنّه مقتضى العقد. ز - خيار الرّؤية فيما إذا باع ما لم يره، على القول بصحّته، للحاجة إلى ذلك. رابعاً: مذهب الحنابلة: 28 - قسم الحنابلة الشّروط في البيع إلى قسمين: الأوّل: صحيح لازم، ليس لمن اشترط عليه فكّه. الآخر: فاسد يحرم اشتراطه. - 1 - فالأوّل: وهو الشّرط الصّحيح اللّازم، ثلاثة أنواع: أحدها: ما هو مقتضى العقد بحكم الشّرع، كالتّقابض، وحلول الثّمن، وتصرّف كلّ واحد منهما فيما يصير إليه، وخيار المجلس، والرّدّ بعيب قديم. فهذا الشّرط وجوده كعدمه، لا يفيد حكماً، ولا يؤثّر في العقد، لأنّه بيان وتأكيد لمقتضى العقد. الثّاني: شرط من مصلحة العقد، أي تتعلّق به مصلحة تعود على المشترط من المتعاقدين: الخيار، والشّهادة، أو اشتراط صفة في الثّمن، كتأجيله كلّه أو بعضه، أو رهن معيّن به، أو كفيل معيّن به، أو اشتراط صفة مقصودة في المبيع، كالصّناعة والكتابة، أو اشتراط كون الدّابّة ذات لبن، أو غزيرة اللّبن، أو الفهد صيوداً، أو الطّير مصوّتاً، أو يبيض، أو يجيء من مسافة معلومة، أو كون خراج الأرض كذا.. فيصحّ الشّرط في كلّ ما ذكر، ويلزم الوفاء به، وذلك لحديث: «المسلمون عند شروطهم إلاّ شرطاً أحلّ حراماً أو حرّم حلالاً»، ولأنّ الرّغبات تختلف باختلاف ذلك، فلو لم يصحّ اشتراط ذلك لفاتت الحكمة الّتي لأجلها شرع البيع. فهذا الشّرط إن وفّى به لزم، وإلاّ فللمشترط له الفسخ لفواته، أو أرش فقد الصّفة، فإن تعذّر الرّدّ تعيّن أرش فقد الصّفة، كالمعيب إذا تلف عند المشتري. الثّالث: شرط ليس من مقتضى العقد، ولا من مصلحته، ولا ينافي مقتضاه، لكن فيه نفعاً معلوماً للبائع أو للمشتري. أ - كما لو شرط البائع سكنى الدّار المبيعة شهراً، أو أن تحمله الدّابّة (أو السّيّارة) إلى موضع معلوم، فإنّه يصحّ لحديث «جابر رضي الله عنه، حين باع جمله من النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذ قال فبعته واستثنيت حملانه إلى أهلي» وحديث: جابر أيضاً، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم «نهى عن المحاقلة والمزابنة، والثّنيا إلاّ أن تعلم» والمراد بالثّنيا الاستثناء. وقياساً على ما لو باعه داراً مؤجّرةً. ومثل ما تقدّم أيضاً: اشتراط البائع أن يحبس المبيع حتّى يستوفي ثمنه، وكذا اشتراطه المنفعة لغيره مدّةً معلومةً، فلو تلفت العين المشترط استثناء نفعها، قبل استيفاء البائع النّفع: فإن كان التّلف بفعل المشتري وتفريطه، لزمه أجرة مثله، لتفويته المنفعة المستحقّة على مستحقّها. وإن تلفت بغير ذلك، لم يلزمه العوض. ب - وكما لو شرط المشتري على البائع حمل الحطب، أو تكسيره، أو خياطة ثوب، أو تفصيله، أو حصاد زرع، أو جزّ رطبه، فيصحّ إن كان النّفع معلوماً، ويلزم البائع فعله. ولو شرط عليه أن يحمل متاعه إلى منزله، والبائع لا يعرفه، فلهم فيه وجهان. ثمّ إن تعذّر العمل المشروط بتلف المبيع، أو استحقّ النّفع بالإجارة الخاصّة، أو تعذّر بموت البائع، رجع المشتري بعوض ذلك النّفع، كما لو انفسخت الإجارة بعد قبض عوضها، رجع المستأجر بعوض المنفعة. وإن تعذّر العمل على البائع بمرض، أقيم مقامه من يعمل، والأجرة على البائع، كما في الإجارة. 29 - استثنى الحنابلة من جواز اشتراط النّفع المعلوم، ما لو جمع في الاستثناء بين شرطين، وكانا صحيحين: كحمل الحطب وتكسيره، أو خياطة الثّوب وتفصيله، فإنّ البيع لا يصحّ، لحديث: عبد اللّه بن عمر رضي الله تعالى عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحلّ سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك». أمّا إن كان الشّرطان المجموعان من مقتضى العقد، كاشتراط حلول الثّمن مع تصرّف كلّ منهما فيما يصير إليه، فإنّه يصحّ بلا خلاف. أو يكونا من مصلحة البيع، كاشتراط رهن وكفيل معيّنين بالثّمن، فإنّه يصحّ، كما لو كانا من مقتضاه. - 2 - والآخر: وهو الشّرط الفاسد المحرّم، تحته أيضاً ثلاثة أنواع: النّوع الأوّل: 30 - أن يشترط أحدهما على صاحبه عقداً آخر: كعقد سلم، أو قرض، أو بيع، أو إجارة، أو شركة، فهذا شرط فاسد، يفسد به البيع، سواء اشترطه البائع أم المشتري. وهذا مشهور المذهب، وإن كان بطلان الشّرط وحده احتمالاً عندهم، وهو رواية عن الإمام أحمد. ودليل المشهور: أ - أنّه بيعتان في بيعة، «وأنّ النّبيّ نهى عن بيعتين في بيعة». والنّهي يقتضي الفساد. ب - وقول ابن مسعود رضي الله عنه: صفقتان في صفقة رباً. ج - ولأنّه شرط عقداً في آخر، فلم يصحّ، كنكاح الشّغار. وكذلك كلّ ما كان في معنى ذلك، مثل أن يقول: بعتك داري بكذا على أن تزوّجني ابنتك، أو على أن تنفق على دابّتي، أو على حصّتي من ذلك، قرضاً أو مجّاناً. النّوع الثّاني: 31 - أن يشترط في العقد ما ينافي مقتضاه. مثل: أن يشترط البائع على المشتري أن لا يبيع المبيع، ولا يهبه، ولا يعتقه، أو يشترط عليه أن يبيعه، أو يقفه، أو أنّه متى نفق (هلك) المبيع فبها، وإلاّ ردّه، أو إن غصبه غاصب رجع عليه بالثّمن، وإن أعتقه فالولاء له، فهذه وما أشبهها شروط فاسدة. وفي فساد البيع بها روايتان في المذهب. والمنصوص عن أحمد أنّ البيع صحيح، ولا يبطله الشّرط، بل يبطل الشّرط فقط، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أبطل الشّرط في حديث بريرة المعروف، ولم يبطل العقد. 32 - وقد استثنى الحنابلة من هذا الشّرط الباطل العتق، فيصحّ أن يشترطه البائع على المشتري، لحديث بريرة المذكور، ويجبر المشتري على العتق إن أباه، لأنّه حقّ للّه تعالى كالنّذر، فإن امتنع المشتري من عتقه أعتقه الحاكم عليه، لأنّه عتق مستحقّ عليه، لكونه قربةً التزمها، كالنّذر. 33 - وبناءً على الحكم بصحّة البيع فيما تقدّم، وبفساد الشّرط فقط بناءً على مذهبهم - فإنّه يجوز للّذي فات غرضه بفساد الشّرط، من البائع والمشتري، سواء أعلم بفساد الشّرط أم لم يعلم - ما يلي: أ - فسخ البيع، لأنّه لم يسلم له ما دخل عليه من الشّرط. ب - للبائع الرّجوع بما نقصه الشّرط من الثّمن بإلغاء الشّرط، لأنّه إنّما باع بنقص، لما يحصل له من الغرض الّذي اشترطه، فإذا لم يحصل له غرضه رجع بالنّقص. ج - وللمشتري الرّجوع بزيادة الثّمن بإلغاء الشّرط، لأنّه إنّما اشترى بزيادة الثّمن، لما يحصل له من الغرض الّذي اشترطه، فإذا لم يحصل له غرضه رجع بالزّيادة الّتي سمح بها، كما لو وجده معيباً. فللبائع الخيار بين الفسخ وبين أخذ أرش النّقص. وللمشتري الخيار بين الفسخ وبين أخذ ما زاده على الثّمن. ومع ذلك فقد ذكر الحنابلة أيضاً احتمال ثبوت الخيار، بدون الرّجوع بشيء، وذلك: قياساً على من شرط رهناً أو ضميناً، فامتنع الرّاهن والضّمين. ولأنّه ما ينقصه الشّرط من الثّمن مجهول، فيصير الثّمن مجهولاً. ولأنّ «النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يحكم لأرباب بريرة بشيء»، مع فساد الشّرط، وصحّة البيع. النّوع الثّالث: 34 - أن يشترط البائع أو المشتري شرطاً يعلّق عليه البيع والشّراء، كقول البائع: بعتك إن جئتني بكذا، أو بعتك إن رضي فلان، وكقول المشتري: اشتريت إن جاء زيد، فلا يصحّ البيع، وذلك لأنّ مقتضى البيع نقل الملك حال التّبايع، والشّرط هنا يمنعه. ولأنّه علّق البيع على شرط مستقبل، فلم يصحّ، كما إذا قال: بعتك إذا جاء آخر الشّهر. واستثنوا من ذلك قول البائع: بعتك إن شاء اللّه، وقول المشتري: قبلت إن شاء اللّه، وبيع العربون، فإنّه يصحّ، لأنّ نافع بن الحارث اشترى لعمر دار السّجن من صفوان، فإن رضي عمر، وإلاّ له كذا وكذا. (ر: مصطلح عربون)
35 - ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة». وورد في حديث ابن مسعود رضي الله عنه. قال: «نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة». والمراد بهذه المسألة: جمع بيعتين في عقد واحد. وتسمية ذلك العقد بيعتين باعتبار تعدّد الثّمن. وأشار الكمال بن الهمام من الحنفيّة إلى توهّم من يتكلّم في الحديث: أنّ الحديثين بمعنًى واحد، وليس كذلك، بل حديث البيعتين أخصّ من حديث الصّفقتين، لأنّ الأوّل خصوص صفقة من الصّفقات، وهي البيع، وأمّا حديث الصّفقتين فهو أعمّ لشموله البيع وغيره، كالإجارة. واختلفت الصّور الّتي ألقاها الفقهاء لتصوّر المنهيّ عنه. على تفصيل ينظر في مصطلح: (بيعتان في بيعة).
انظر: وضيعة.
1 - البيع هو: مبادلة مال بمال. والوفاء لغةً: ضدّ الغدر، يقال: وفّى بعهده وأوفى بمعنًى واحد، والوفاء: الخلق الشّريف العالي الرّفيع، وأوفى الرّجل حقّه ووفّاه إيّاه بمعنى: أكمله له وأعطاه وافياً. وفي اصطلاح الفقهاء، بيع الوفاء هو: البيع بشرط أنّ البائع متى ردّ الثّمن يردّ المشتري المبيع إليه، وإنّما سمّي (بيع الوفاء) لأنّ المشتري يلزمه الوفاء بالشّرط. هذا، ويسمّيه المالكيّة " بيع الثّنيا " والشّافعيّة " بيع العهدة " والحنابلة " بيع الأمانة " ويسمّى أيضاً " بيع الطّاعة " " وبيع الجائز " وسمّي في بعض كتب الحنفيّة " بيع المعاملة "
2 - اختلف الفقهاء في الحكم الشّرعيّ لبيع الوفاء. فذهب المالكيّة والحنابلة والمتقدّمون من الحنفيّة والشّافعيّة إلى: أنّ بيع الوفاء فاسد، لأنّ اشتراط البائع أخذ المبيع إذا ردّ الثّمن إلى المشتري يخالف مقتضى البيع وحكمه، وهو ملك المشتري للمبيع على سبيل الاستقرار والدّوام. وفي هذا الشّرط منفعة للبائع، ولم يرد دليل معيّن يدلّ على جوازه، فيكون شرطاً فاسداً يفسد البيع باشتراطه فيه. ولأنّ البيع على هذا الوجه لا يقصد منه حقيقة البيع بشرط الوفاء، وإنّما يقصد من ورائه الوصول إلى الرّبا المحرّم، وهو إعطاء المال إلى أجل، ومنفعة المبيع هي الرّبح، والرّبا باطل في جميع حالاته. وذهب بعض المتأخّرين من الحنفيّة والشّافعيّة إلى أنّ بيع الوفاء جائز مفيد لبعض أحكامه، وهو انتفاع المشتري بالمبيع - دون بعضها - وهو البيع من آخر. وحجّتهم في ذلك: أنّ البيع بهذا الشّرط تعارفه النّاس وتعاملوا به لحاجتهم إليه، فراراً من الرّبا، فيكون صحيحاً لا يفسد البيع باشتراطه فيه، وإن كان مخالفاً للقواعد، لأنّ القواعد تترك بالتّعامل، كما في الاستصناع. 3 - وذهب أبو شجاع وعليّ السّغديّ والقاضي أبو الحسن الماتريديّ من الحنفيّة إلى: أنّ بيع الوفاء رهن وليس ببيع، فيثبت له جميع أحكام الرّهن فلا يملكه المشتري ولا ينتفع به، ولو استأجره لم تلزمه أجرته، كالرّاهن إذا استأجر المرهون من المرتهن، ويسقط الدّين بهلاكه ولا يضمن ما زاد عليه، وإذا مات الرّاهن كان المرتهن أحقّ به من سائر الغرماء. وحجّتهم في ذلك: أنّ العبرة في العقود للمعاني، لا للألفاظ والمباني. ولهذا كانت الهبة بشرط العوض بيعاً، وكانت الكفالة بشرط براءة الأصيل حوالةً، وأمثال ذلك كثير في الفقه. وهذا البيع لمّا شرط فيه أخذ المبيع عند ردّ الثّمن كان رهناً، لأنّه هو الّذي يؤخذ عند أداء الدّين. 4 - قال ابن عابدين: في بيع الوفاء قولان: الأوّل: أنّه بيع صحيح مفيد لبعض أحكامه من حلّ الانتفاع به، إلاّ أنّه لا يملك المشتري بيعه، قال الزّيلعيّ في الإكراه: وعليه الفتوى. الثّاني: القول الجامع لبعض المحقّقين: أنّه فاسد في حقّ بعض الأحكام حتّى ملك كلّ منهما الفسخ، صحيح في حقّ بعض الأحكام كحلّ الإنزال ومنافع المبيع، ورهن في حقّ البعض حتّى لم يملك المشتري بيعه من آخر ولا رهنه وسقط الدّين بهلاكه. فهو مركّب من العقود الثّلاثة، كالزّرافة فيها صفة البعير والبقرة والنّمر، جوّز لحاجة النّاس إليه بشرط سلامة البدلين لصاحبهما، قال في البحر: وينبغي أن لا يعدل في الإفتاء عن القول الجامع. وفي النّهر: والعمل في ديارنا على ما رجّحه الزّيلعيّ. 5- وقال صاحب بغية المسترشدين من متأخّري الشّافعيّة: بيع العهدة صحيح جائز وتثبت به الحجّة شرعاً وعرفاً على قول القائلين به، ولم أر من صرّح بكراهته، وقد جرى عليه العمل في غالب جهات المسلمين من زمن قديم وحكمت بمقتضاه الحكّام، وأقرّه من يقول به من علماء الإسلام، مع أنّه ليس من مذهب الشّافعيّ، وإنّما اختاره من اختاره ولفّقه من مذاهب، للضّرورة الماسّة إليه، ومع ذلك فالاختلاف في صحّته من أصله وفي التّفريع عليه، لا يخفى على من له إلمام بالفقه.
6 - لتطبيق أحكام بيع الوفاء شرطان عند من يجيزه لا بدّ من توافرهما وهما: أ - أن ينصّ في العقد على أنّه متى ردّ البائع الثّمن ردّ المشتري المبيع. ب - سلامة البدلين، فإن تلف المبيع وفاءً وكانت قيمته مساويةً للدّين (أي الثّمن) سقط من الدّين في مقابلته، وإن كانت زائدةً على مقدار الدّين، وهلك المبيع في يد المشتري، سقط من قيمته قدر ما يقابل الدّين، وهو في هذا كالرّهن عند الحنفيّة.
هناك آثار تترتّب على بيع الوفاء عند من يجيزه من متأخّري الحنفيّة وغيرهم مجملها فيما يلي: أوّلاً - عدم نقله للملكيّة: 7 - أنّ بيع الوفاء لا يسوّغ للمشتري التّصرّف النّاقل للملك كالبيع والهبة عند من يجيزه، ويترتّب على ذلك عدّة مسائل: أ - عدم نفاذ بيع المبيع وفاءً من غير البائع، وذلك لأنّه كالرّهن، والرّهن لا يجوز بيعه. ب - لا يحقّ للمشتري في بيع الوفاء الشّفعة، وتبقى الشّفعة للبائع، ففي الفتاوى الهنديّة نقلاً عن فتاوى أبي الفضل: أنّه سئل عن كرم بيد رجل وامرأة، باعت المرأة نصيبها من الرّجل، واشترطت أنّها متى جاءت بالثّمن ردّ عليها نصيبها، ثمّ باع الرّجل نصيبه، هل للمرأة فيه شفعة ؟ قال (أبو الفضل): إن كان البيع بيع معاملة ففيه الشّفعة للمرأة، سواء كان نصيبها من الكرم في يدها أو في يد الرّجل. وبيع الوفاء وبيع المعاملة واحد، كذا في التّتارخانيّة. ج - الخراج في الأرض المبيعة بيع وفاء على البائع. د - لو هلك المبيع في يد المشتري فلا شيء لواحد منهما على الآخر. هـ - منافع المبيع بيع وفاء للبائع كالإجارة وثمرة الأشجار ونحوها، فلو باع داره من آخر بثمن معلوم بيع وفاء، وتقابضا، ثمّ استأجرها من المشتري مع شرائط صحّة الإجارة وقبضها ومضت المدّة، هل يلزمه الأجر ؟ قال: لا، فتبيّن أنّ الملك لم ينتقل للمشتري، إذ لو انتقل لوجبت الأجرة، وكذلك ثمر الشّجر للبائع دون المشتري، فإنّ المشتري لو أخذ من ثمر الأشجار شيئاً، فإن أخذه بإذن البائع برئت ذمّته، وإن أخذه بغير إذنه ورضاه ضمنها. و - انتقال المبيع وفاءً بالإرث إلى ورثة البائع، فلو باع رجل بستانه من آخر بيع وفاء، وتقابضا، ثمّ باعه المشتري من آخر بيعاً باتّاً وسلّم وغاب، فللبائع أو ورثته أن يخاصموا المشتري الثّاني، ويستردّوا منه البستان. وكذا إذا مات البائع والمشتريان، ولكلّ ورثة، فلورثة المالك أن يستخلصوه من أيدي ورثة المشتري الثّاني، ولورثة المشتري الثّاني أن يرجعوا بما أدّى من الثّمن إلى بائعه في تركته الّتي في أيدي ورثته، ولورثة المشتري الأوّل أن يستردّوه، ويحبسوه بدين مورثهم إلى أن يقضوا الدّين. ثانياً: حقّ البائع في استرداد المبيع: 8 - يحقّ للبائع أن يستردّ مبيعه إذا دفع الثّمن للمشتري في حالتي التّوقيت وعدمه. ثالثاً: أثر موت أحد المتعاقدين في بيع الوفاء: 9 - سبق قريباً أنّه إذا مات المشتري أو البائع بيع وفاء فإنّ ورثته يقومون مقامه في أحكام الوفاء، نظراً لجانب الرّهن. رابعاً: اختلاف المتعاقدين في بيع الوفاء: 10 - من أهمّ الأحكام الّتي تتعلّق باختلاف المتعاقدين في بيع الوفاء ما يلي: أ - إذا اختلف المتعاقدان في أصل بيع الوفاء، كأن قال أحدهما: كان البيع باتّاً أو وفاءً، فالقول لمدّعي الجدّ والبتات إلاّ بقرينة الوفاء، وهناك قول آخر عند الحنفيّة أنّ القول لمدّعي الوفاء استحساناً. ب - إذا أقام كلّ من المشتري والبائع البيّنة تقدّم بيّنة الوفاء، لأنّها خلاف الظّاهر. ج - إذا لم يكن لأحدهما بيّنة فالقول قول مدّعي البتات. قال ابن عابدين: فتحصّل أنّ الاستحسان في الاختلاف في البيّنة ترجيح بيّنة الوفاء، وفي الاختلاف في القول ترجيح قول مدّعي البتات. ومن القرائن الدّالّة على الوفاء نقصان الثّمن كثيراً، وهو ما لا يتغابن فيه النّاس عادةً إلاّ أن يدّعي صاحبه تغيّر السّعر.
1 - البيعتان لغةً: مثنّى البيعة. والبيعة: اسم المرّة الواحدة من البيع. والبيعتان في بيعة في الاصطلاح قد اختلف العلماء فيها على أقوال: الأوّل: معناه أن يبيع الرّجل السّلعة فيقول: هي نقداً بكذا، ونسيئةً بكذا. أي بثمن أكثر من الثّمن الأوّل. وقد فسّره بهذا سماك - راوي حديث النّهي عن البيعتين في بيعة - عن ابن مسعود رضي الله عنه عند الإمام أحمد. وقد أخذ بهذا التّفسير. قوم، ولو بيّن المتبايعان أحد الثّمنين بعد ذلك، ومن هنا منعوا الزّيادة في بيعة السّلعة نسيئةً عن سعر يومها كما سيأتي. الثّاني: فسّره بعضهم بالتّفسير السّابق نفسه، لكن بقيد الافتراق على الإبهام بين الثّمنين، فقالوا: معناه أن يقول: بعتك هذا نقداً بكذا، أو نسيئةً بكذا. ثمّ يفترقان قبل أن يلتزما بكون البيع على أحد الثّمنين، بل يفترقان على الإبهام. قال الشّافعيّ: هو أن يقول: بعتك هذا بألف نقداً أو ألفين إلى سنة، فخذ بأيّهما شئت أنت وشئت أنا. قال القاضي من الشّافعيّة: المسألة مفروضة على أنّه قبل على الإبهام. أمّا لو قال: قبلت بألف نقداً، أو قال: قبلت بألفين نسيئةً، صحّ ذلك وفسّره بذلك أبو عبيد والثّوريّ وإسحاق والمالكيّة والحنابلة أيضاً، مع تفسيرهم له بتفسيرات أخرى كما يأتي. الثّالث: قال مالك أيضاً: هو أن يشتري سلعةً بدينار أو بشاة، أو يشتري بدينار شاةً أو ثوباً، قد وجب أحدهما للمشتري. قال الباجيّ: سواء كان الإلزام لهما أو لأحدهما، فيدخل في هذا الوجه الوجه السّابق أيضاً، والمدار على التّخيير بين ثمنين أو سلعتين مع الإلزام بأحدهما لا بعينه. الرّابع: ما قاله ابن القيّم في تهذيب السّنن: هو أن يقول: بعتك هذه السّلعة بمائة إلى سنة على أن أشتريها منك - أي بعد ذلك - بثمانين حالّةً. قال: وهذا معنى الحديث الوارد في البيعتين في بيعة، وهو الّذي لا معنى له غيره، وهو مطابق لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «فلَه أَوْكَسُهما أو الرّبا» فإنّه إمّا أن يأخذ الثّمن الزّائد فيربي، أو الثّمن الأوّل فيكون هو أوكسهما. وهو قد قصد بيع دراهم عاجلة بدراهم مؤجّلة أكثر منها، ولا يستحقّ إلاّ رأس ماله. ووجه كونه من باب البيعتين في بيعة: أنّهما بيعتان إحداهما بثمن مؤجّل، والأخرى بثمن معجّل، وقد أبرمتا في صفقة واحدة. الخامس: هو أن يشترطا بيعاً في بيع. وقد فسّره بهذا الوجه أيضاً الشّافعيّ، فقال: هو أن يقول: بعتك هذه الفرس بألف على أن تبيعني دارك بكذا، أي إذا وجب لك عندي فقد وجب لي عندك. قال الشّوكانيّ: وهذا يصلح تفسيراً للرّواية الأولى من حديث أبي هريرة لا للأخرى، فإنّ قوله «أوكسهما» يدلّ على أنّه باع الشّيء الواحد بيعتين: بيعة بأقلّ، وبيعة بأكثر. وجعل منه مسروق أن يقول: بعتك هذا البزّ بكذا وكذا ديناراً تعطيني بالدّينار عشرة دراهم، أي لأنّه جمع بين بيع وصرف. السّادس: وهو عند الحنفيّة أعمّ من الوجه الخامس، إذ يدخل فيه أن يبيع داراً بشرط أن يسكنها البائع شهراً، أو دابّةً على أن يستخدمها المشتري ولو مدّةً معيّنةً، ونحو ذلك. السّابع: قال الخطّابيّ: هو أن يشتري منه بدينار صاع حنطة سلماً إلى شهر، فلمّا حلّ الأجل، وطالبه بالحنطة، قال له: بعني الصّاع الّذي لك عليّ بصاعين إلى شهرين، قال الخطّابيّ: فهذا بيع ثان قد دخل على البيع الأوّل، فيردّان إلى أوكسهما وهو الأوّل. ونقل هذا التّفسير عن شرح سنن أبي داود لابن رسلان، ونقله ابن الأثير في النّهاية، وواضح أنّ مثل هذا البيع باطل عند الجميع، لكونه بيع ربويّ بجنسه متفاضلاً ونسيئةً.
أ - الصّفقتان في الصّفقة: 2 - الصّفقة هي: المرّة من الصّفق، وهو في اللّغة: الضّرب الّذي يسمع له صوت. وأطلق في العرف اللّغويّ على المرّة الواحدة من المبايعات، فقد كان أحدهم إذا أوجب البيع صفّق بيده على يد المشتري، وعلى بيعة الإمام، ومنه الحديث «من بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه»... وتطلق الصّفقة في الاصطلاح كذلك على البيعة وعلى غيرها من العقود، فالمرّة من الإجارة صفقة، ومن القرض صفقة، وهكذا ويراد ب " الصّفقتين في صفقة " جمع صفقتين في عقد واحد، كأن يبيع بيته من فلان ويشتري منه دابّته، على أنّه إذا وجبت هذه وجبت الصّفقة الأخرى، أو يبيع بيته من فلان ويستأجر منه دابّته، على أنّه إذا وجب البيع وجبت الإجارة. فاصطلاح (الصّفقتين في صفقة) أعمّ من اصطلاح (البيعتين في بيعة). ب - البيع والشّرط: 3 - البيع والشّرط أعمّ من البيعتين في بيعة، لأنّ الاشتراط قد يكون اشتراط عقد آخر، وقد يكون اشتراطاً لمصلحة أحد المتعاقدين، من غير أن يكون المشروط عقداً آخر.
4 - البيعتان في بيعة أحد البيوع المنهيّ عنها، وقد ورد النّهي عنها في ثلاث روايات: الأولى: رواية أبي هريرة رضي الله عنه، قال: «نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة» ومثلها رواية عبد اللّه بن عمر رضي الله عنهما. ورواية عبد اللّه بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما «نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة، وعن ربح ما لم يضمن». الثّانية: عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من باع بيعتين في بيعة فَلَه أَوْكسهما أو الرّبا» وقال الشّوكانيّ: في إسناده محمّد بن عمرو بن علقمة، وقد تكلّم فيه غير واحد. الثّالثة: عن ابن مسعود رضي الله عنه قال «نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة» وفي رواية عنه «لا تحلّ الصّفقتان في الصّفقة» وفي أخرى موقوفة «الصّفقة في الصّفقتين رباً» فالبيعتان في بيعة عقد محرّم، يأثم من يقدم عليه لمخالفته النّهي، وهو عقد فاسد، لكنّ الفقهاء يختلفون فيما يحكمون بفساده، طبقاً لاختلافهم في تعريفهم للبيعتين في بيعة كما تقدّم، وفيما يلي بيان ذلك: النّوع الأوّل: أن يقول البائع: هو بكذا حالّاً، وبأعلى منه مؤجّلاً. 5- البيع بثمن آجل معلوم القدر والأجل، متّفق على جوازه من حيث الجملة. ولا خلاف فيه لأحد من الفقهاء، وذلك لقول اللّه تعالى {يا أيّها الّذين آمَنوا إذا تَدَاينتم بِدَيْن إلى أجلٍ مسمًّى فاكتبوه} قال المفسّرون: المراد به كلّ معاملة كان أحد العوضين فيها نقداً والآخر نسيئةً فما قدّم فيه الثّمن وأجّل فيه تسليم المثمّن، فهو السّلم، وقد ورد الشّرع بجوازه، وانعقد عليه الإجماع، فهذا مثله، لأنّه تأجيل لأحد العوضين، وهذا كلّه بشرط أن لا يكون العوضان ممّا يجري بينهما ربا النّسيئة، كالذّهب بالذّهب أو بالفضّة، وكالقمح بالشّعير. هذا، غير أنّ الإمام أحمد كره أن يختصّ الرّجل بالبيع بالنّسيئة، لا يبيع إلاّ بها، ولا يبيع بنقد. قال ابن عقيل: وإنّما كره النّسيئة لمضارعتها الرّبا، فإنّ الغالب أنّ البائع بنسيئة يقصد الزّيادة بالأجل، لكنّ البيع بنسيئة ليس بمحرّم اتّفاقاً، ولا يكره إلاّ أن لا يكون له تجارة غيره. غير أنّه إن كان الثّمن الّذي وقع عليه البيع بالنّسيئة أعلى من الثّمن الحاضر لتلك السّلعة: فقد نقل الخلاف فيه عن زين العابدين عليّ بن الحسين، فقد نقل الشّوكانيّ عنه: أنّه كان يرى حرمة بيع الشّيء بأكثر من سعر يومه لأجل النّساء. ونقل صاحب سبل السّلام الخلاف فيه عن قوم لم يسمّهم. قال الشّوكانيّ: متمسّكهم رواية «فله أَوْكَسُهما أو الرّبا» قال: وقد عرفتَ ما في راويه من المقال، ومع ذلك فالمشهور عن أبي هريرة رضي الله عنه اللّفظ الّذي رواه غيره، وهو النّهي عن بيعتين، ولا حجّة فيه على المطلوب، ثمّ قال: على أنّ غاية ما فيها الدّلالة على المنع من البيع إذا وقع على هذه الصّورة، وهي أن يقول: نقداً بكذا ونسيئةً بكذا، لا إذا قال من أوّل الأمر: نسيئةً بكذا فقط، وكان أكثر من سعر يومه. مع أنّ المتمسّكين بهذه الرّواية يمنعون من هذه الصّورة، ولا يدلّ الحديث على ذلك، فالدّليل أخصّ من الدّعوى. وظاهر ما تقدّم عن سماك (ر: ف 1) أنّه كان يرى المحرّم أن يقول: هو نقداً بكذا ونسيئةً بكذا، فدلالة الحديث عليه مطابقة. النّوع الثّاني: البيع بثمنين معجّل ومؤجّل أعلى منه، مع الإبهام: 6 - إذا باع سلعةً بألف حالّةً أو ألف ومائة إلى سنة، وقد وجب عليه أحدهما، فإن عيّنا أحد الثّمنين قبل الافتراق جاز البيع، وإن افترقا على الإبهام لم يجز. وقد نصّ الشّافعيّ كما تقدّم على أنّ هذا من البيعتين في بيعة المنهيّ عنه، وأخذ بذلك جمهور الفقهاء. وقد علّل الشّافعيّة والحنابلة لهذا المنع بعلّتين: الأولى: الجهالة في الثّمن وعدم استقراره. قال ابن قدامة: لأنّ الثّمن مجهول فلم يصحّ، كالبيع بالرّقم المجهول، ولأنّ أحد العوضين غير معيّن ولا معلوم، فلم يصحّ، كما لو قال: بعتك إحدى دوري. قال: وإنّما يصحّ إذا قال المشتري بعد ذلك: أنا آخذه بالنّسيئة بكذا، فقال البائع: خذه، أو قد رضيت، أو نحو ذلك، فيكون عقداً كافياً. أمّا إن لم يوجد ما يقوم مقام الإيجاب أو يدلّ عليه فلا يصحّ، لأنّ ما مضى من القول - أي على التّرديد والإبهام - لا يصلح أن يكون إيجاباً. ثمّ خرّج وجهاً آخر بالصّحّة. الثّانية: أنّ في ذلك رباً، والتّعليل بهذه العلّة مستند إلى بعض الرّوايات عن ابن مسعود رضي الله عنه، ففيها: «الصّفقة في الصّفقتين رباً» وحديث أبي هريرة رضي الله عنه: «فله أوكسهما أو الرّبا». وقد علّل بهذه العلّة الإمام مالك وشيخه ربيعة وسائر المالكيّة. جاء في المدوّنة تفسير ما كره من ذلك: أنّه إذا ملك ثوباً بدينار نقداً أو دينارين إلى أجل، تأخذه بأيّهما شئت وشئت أنا، وقد وجب عليك أحدهما، فهذا كأنّه وجب عليك بدينار نقداً، فأخّرته فجعلته بدينارين إلى أجل، أو فكأنّه وجب عليك بدينارين إلى أجل فجعلتهما بدينار نقداً. توضيح مذهب المالكيّة في هذه المسألة: 7 - قد توسّع المالكيّة في شرح هذه المسألة وبيان ضوابط ما يحرم من البيعتين في بيعة، وحاصل كلامهم ما يلي: أ - أنّ التّحريم شامل لما إذا كان التّرديد بين سلعتين مختلفتين، كما لو قال: أبيعك بدينار هذه السّلعة، أو هذه الشّاة. ولما إذا كان التّرديد بين ثمنين، كما إذا قال: أبيعك هذه السّلعة بعشرة نقداً أو بعشرين إلى سنة. ب - ولا يحرم ذلك إلاّ إذا كان العقد على سبيل الإلزام للمتبايعين، أو لأحدهما بأحد الأمرين، أمّا إن كان على سبيل التّخيير لكليهما من غير إلزام جاز. ج - وهذا إن كانت السّلعتان اللّتان حصل التّخيير بينهما مختلفتين بالجنس، أمّا إن كانتا متّفقتين بالجنس، والاختلاف بينهما بالجودة أو الرّداءة فقط فلا بأس به، لأنّه لا يختار إلاّ الأفضل. قال مالك: لا بأس بشراء ثوب من ثوبين يختاره بثمن كذا، أو خمسين من مائة ثوب في عدل يختارها إن كانت جنساً واحداً ووصف رقاعها - أي نسجها - وطولها، وإن اختلفت القيم، بعد أن تكون كلّها مَرويّةً أو هَرَويّةً (نسبةً إلى مَرْو وهَرَاة). د - ويستثنى من هذه الحالة أن تكون السّلم طعاماً يدخله ربا الفضل، فلا يجوز أن تشتري منه على أن تختار صبرةً من صبر، أو تختار من نخيل - أي من ثمر نخيل - نخلةً - أي ثمرها أو من شجر مثمر عدداً يسمّيه، اتّفق الجنس أو اختلف، وإنّما نصّ المالكيّة على الطّعام في هذه المسألة، لأنّ علّة ربا الفضل عندهم في غير النّقدين: الطّعم. وقالوا في تصوير وجود ربا الفضل هنا: إنّه يختار إحدى الصّبر ثمّ يتركها، ويأخذ أخرى، وبينهما فضل في الكيل والسّلعة من المطعوم فيكون من ربا الفضل. ولم يقبل الحنفيّة التّعليل بهذه العلّة أصلاً قال ابن الهمام: إنّ كون الثّمن على تقدير النّقد ألفاً، وعلى تقدير النّسيئة ألفين ليس في معنى الرّبا. 8- وأمّا البيع مع التّخيير بين السّلع أو بين أثمان مختلفة للسّلعة الواحدة، فهو فاسد عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة أيضاً للجهالة، ولكون البيع على تلك الصّفة مثاراً للتّنازع، واستثنى الحنفيّة على سبيل الاستحسان أن يبيع من الثّياب مثلاً أحد ثوبين أو ثلاثة على أنّه بالخيار بينها ثلاثة أيّام فأقلّ، فإن كانت أربعة أثواب فالبيع فاسد. قالوا: والقياس أن يفسد البيع في الكلّ، وهو قول زفر والشّافعيّ. وجه الاستحسان: أنّ شرع الخيار للحاجة إلى دفع الغبن ليختار ما هو الأوفق والأرفق، والحاجة متحقّقة لأنّ المشتري يحتاج إلى اختيار من يثق به، أو اختيار من يشتريه لأجله، غير أنّ هذه الحاجة تندفع بالثّلاث لوجود الجيّد والرّديء والوسط فيها، أمّا الأربعة فما زاد فالحاجة إليها غير متحقّقة. أمّا لو باع أحد قيميّين على الإبهام دون تخيير، كدار وثوب بدينار مثلاً، فهو فاسد عند الجميع للجهالة بالمبيع. النّوع الثّالث: ما ورد في كلام ابن القيّم من أن يبيع الشّيء بثمن مؤجّل، ويشترط أن يعود فيشتريه من مشتريه بثمن حالّ أقلّ من ثمنه المؤجّل. 9 - وهذا النّوع أيضاً بيع فاسد عند كلّ من يرى بطلان بيع العينة، فإنّ بيع العينة: أن يبيع لرجل بثمن معجّل سلعةً كان قد اشتراها منه بثمن مؤجّل أكثر منه. وهي من حيل الرّبا، فإنّ السّلعة رجعت إلى صاحبها، وثبت له ألف ومائتان مثلاً في ذمّة صاحبه إلى أجل، وأخذ في مقابلها ألفاً حالّةً (انظر: بيع العينة). فالّذين قالوا بتحريم بيع العينة قالوا: يحرم ذلك ويفسد إذا وقع، سواء وقع البيع الثّاني اتّفاقاً، أو تواطآ عليه عند العقد الأوّل. فإذا وقع على أساس اشتراط العقد الثّاني في العقد الأوّل فهو أولى بالتّحريم والفساد. أمّا الّذين أجازوا بيع العينة - ومنهم الشّافعيّ وأصحابه - فيحرم هذا البيع عندهم كذلك، ويفسد، وهو عندهم من البيعتين في بيعة المنهيّ عنه، ومن البيع أو الشّرط كذلك، وهو داخل في النّوع التّالي. النّوع الرّابع: أن يشترط في عقد البيع بيعاً آخر أو غيره من العقود: 10 - وهو على طريقتين: الأولى: أن يشترط في عقد البيع بيعاً آخر ولا يحدّد المبيع الثّاني أو الثّمن. فهذا لا يصحّ من وجهين. الأوّل: أنّه من " البيع والشّرط " المنهيّ عنه. والثّاني: الجهالة، وهذا بالإضافة إلى كونه من البيعتين في بيعة عند الأكثر. الثّانية: أن يشترط في البيع بيعاً آخر ويحدّد المبيع والثّمن، كأن يقول: بعتك داري هذه بألف على أن تبيعني دارك بألف وخمسمائة، أو على أن تشتري منّي داري الأخرى بألف وخمسمائة. وقد صرّح الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة بأنّ هذا من البيعتين في بيعة المنهيّ عنه. وهو عند الحنفيّة والشّافعيّة أيضاً من باب البيع والشّرط المنهيّ عنه في السّنّة النّبويّة. (ر: بيع وشرط). 11 - والنّهي عن البيع والشّرط وإن اختلف الفقهاء في الأخذ به - فمنعه الحنفيّة والشّافعيّة، وأجازه الحنابلة إذا كان شرطاً واحداً - على تفصيل عند الجميع ليس هذا موضع بيانه، إلاّ أنّ المشروط إن كان بيعاً آخر فإنّه يفسد الشّرط، ويفسد البيع أيضاً حتّى عند الحنابلة. وهذا النّوع يفسد أيضاً سواء أكان المشروط في عقد البيع بيعاً أو غيره، كسلف أو إجارة أو قرض أو غير ذلك من العقود، قياساً على اشتراط البيع، ولدخوله في عموم الرّواية الأخرى «نهى عن صفقتين في صفقة» فإنّ الصّفقة بمعنى العقد، فتشمل كلّ عقدين جمع بينهما في عقد واحد. وورد في الجمع بين البيع والسّلف نهي خاصّ، هو قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم «لا يحلّ سلَف وبيع». قال ابن قدامة: وهذا مذهب مالك والشّافعيّ ولا أعلم فيه خلافاً، إلاّ أنّ مالكاً قال: إن ترك مشترط السّلف شرطه صحّ البيع. وعلّل ابن قدامة لفساد البيع بالإضافة إلى كونه من الصّفقتين في صفقة، بأنّه إذا اشترط القرض مثلاً زاد في الثّمن لأجله، فتصير الزّيادة في الثّمن عوضاً عن القرض وربحاً له، وذلك رباً محرّم، ففسد كما لو صرّح به. ولو كان العقدان ليس فيهما بيع فسدا كذلك، كما لو شرط في الإجارة سلفاً أو نكاحاً، أو شرط في النّكاح نكاحاً، وهو الشّغار المنهيّ عنه على أحد القولين في تفسيره (ر: شغار). ومن جملة ما يدخل في هذا النّوع أيضاً: أن يبيع سلعةً بدنانير ذهبيّة، ويشترط أن يسلّمه الثّمن دراهم بسعر صرف يتّفقان عليه في عقد البيع نفسه. قال ابن قدامة: وهذا باطل لأنّه شرط في العقد أن يصارفه بالثّمن الّذي وقع العقد به، والمصارفة عقد، فيكون من باب البيعتين في بيعة، ثمّ قال: وقال مالك: لا ألتفت إلى اللّفظ الفاسد إذا كان معلوماً حلالاً، فكأنّه باع السّلعة بالدّراهم الّتي يأخذها بدل الدّنانير. 12 - وينبغي التّفريق بين هذه الحالة المبيّنة أعلاه، وبين أن يبيع سلعتين مختلفتين بثمن واحد، كما لو باع دابّةً وداراً بألف دينار، فإنّ هذا جائز اتّفاقاً وليس من البيعتين في بيعة. وكذا لو باع الدّار بدابّة وألف دينار. 13 - ومثله ما لو جمع بين بيع وإجارة، أو بيع وصرف، أو إجارة ونكاح بعوض واحد، كما لو قال بعتك داري هذه وآجرتك داري الأخرى سنةً بألف دينار، فهذا جائز لأنّهما عينان يجوز أخذ العوض عن كلّ واحدة منهما منفردةً، فجاز أخذ العوض عنهما مجتمعتين، كما لو قال: بعتك هذّبن الثّوبين بألف. وهذا قول الحنابلة الأصحّ عندهم، والأظهر عند الشّافعيّة، ويوزّع العوض عند التّرادّ في أحدهما حسب قيمتهما (أي قيمة المؤجّر مثلاً من حيث الأجرة للمدّة المضروبة، وقيمة رقبة المبيع) والقول الآخر عند كلّ من الفريقين: لا يصحّ، لأنّ حكمهما مختلف، فإنّ المبيع يضمن بمجرّد البيع. والإجارة بخلافه، وقد يعرض - لاختلاف حكمهما باختلاف أسباب الفسخ والانفساخ وغير ذلك - ما يقتضي فسخ أحدهما، فيحتاج إلى التّوزيع، ويلزم الجهل عند العقد بما يخصّ كلّاً منهما من العوض، وذلك محذور، غير أنّه إن كان أحد العقدين نكاحاً صحّ بمهر المثل. لأنّ التّسمية ليست بشرط في صحّته. وعند المالكيّة - على المشهور عندهم - التّصريح بأنّه لا يجوز أن يجتمع مع البيع صرف ولا جعالة ولا مساقاة ولا شركة ولا قراض ولا نكاح ولا سلف، ولا يجوز اجتماع شيء منها مع غيره منها. والسّلف لا يجتمع معه أيضاً صدقة أو هبة أو نحوهما من جانب المتسلّف. النّوع الخامس: اشتراط منفعة لأحد المتعاقدين: 14 - ومثاله أن يقول: بعتك هذه الدّار على أن أسكنها سنةً، أو قال: بعتك هذه الدّابّة على أن أستخدمها شهراً. وقد أدخل الحنفيّة هذا النّوع في البيعتين في بيعة المنهيّ عنه، وقالوا: بأنّه يفسد البيع لذلك، ولأنّه من باب البيع والشّرط المنهيّ عنه (ر: البيع والشّرط). ووجه كونه من البيعتين في بيعة - كما في الهداية وفتح القدير - أنّه لو كانت الخدمة والسّكنى يقابلهما شيء من الثّمن، بأن يعتبر المسمّى ثمناً بإزاء المبيع، وأجرةً بإزاء الخدمة والسّكنى، يكون إجارةً في بيع. ولو كان لا يقابلهما شيء يكون إعارةً في بيع. ووجه كونه ربا: أنّ المشروط زيادة في العقد عاريّة عن العوض، وهو معنى الرّبا. ومثله عند الحنفيّة ما لو باع شجراً عليه ثمر، اشترط بقاء الثّمر على الشّجر مدّةً. ووجه منعه أنّه يكون إجارةً أو إعارةً في بيع، فيكون من باب صفقتين في صفقة كذلك. ويوافق الشّافعيّة على أنّ هذا البيع ممنوع، وأنّ مثل هذا الشّرط يفسد العقد، لأنّه من باب البيع والشّرط. أمّا عند المالكيّة والحنابلة: فهو بيع جائز، حيث كانت المنفعة المشروطة معلومةً. وقالوا: قد صحّ من حديث جابر رضي الله عنه «أنّه باع من النّبيّ صلى الله عليه وسلم جملاً واستثنى حمله إلى المدينة» ولأنّه صلى الله عليه وسلم «نهى عن الثّنيا إلاّ أن تعلم».
1- للبيعة في اللّغة معان، فتطلق على: المبايعة على الطّاعة. وتطلق على: الصّفقة من صفقات البيع، ويقال: بايعته، وهي من البيع والبيعة جميعاً والتّبايع مثله. قال اللّه تعالى {إنّ الّذين يُبايِعونك إنّما يُبايعون اللّه} وفي الحديث «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لمجاشع حينما سأله: علام تبايعنا ؟ قال: على الإسلام والجهاد». وهو عبارة عن المعاقدة والمعاهدة. كأنّ كلّاً منهما باع ما عنده لصاحبه، وأعطاه خالصة نفسه وطاعته ودخيلة أمره. ومثله: أيمان البيعة. وهي: الّتي رتّبها الحجّاج مشتملةً على أمور مغلّظة من طلاق وعتق وصوم ونحو ذلك. والبيعة اصطلاحاً، كما عرّفها ابن خلدون في مقدّمته: العهد على الطّاعة، كأنّ المبايع يعاهد أميره على أن يسلّم له النّظر في أمر نفسه وأمور المسلمين، لا ينازعه في شيء من ذلك، ويطيعه فيما يكلّفه به من الأمر على المنشط والمكره، وكانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهده جعلوا أيديهم في يده تأكيداً للعهد، فأشبه ذلك فعل البائع والمشتري، وصارت البيعة تقترن بالمصافحة بالأيدي. هذا مدلولها في اللّغة ومعهود الشّرع، وهو المراد في الحديث في بيعة النّبيّ صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة، وعند الشّجرة، وحيثما ورد هذا اللّفظ. ومنه: بيعة الخلفاء، ومنه أيمان البيعة. فقد كان الخلفاء يستحلفون على العهد ويستوعبون الأيمان كلّها لذلك. فسمّي هذا الاستيعاب أيمان البيعة. 2 - هذا وقد استفاض عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّ النّاس كانوا يبايعونه تارةً على الهجرة والجهاد، وتارةً على إقامة أركان الإسلام، وتارةً على الثّبات والقرار في معركة الكفّار، وتارةً على التّمسّك بالسّنّة واجتناب البدعة والحرص على الطّاعات. هذا، والكلام عن البيعة بمعنى (المرّة من البيع) موطنه مصطلح: (بيع).
أ - العقد: 3 - العقد وجمعه عقود، وله في اللّغة معان منها: عقد الحبل ونحوه، ومنها العهد. وفي الاصطلاح: ربط أجزاء التّصرّف بإيجاب وقبول شرعاً. فالعقد أعمّ من البيعة. ب - العهد: 4 - من معانيه في اللّغة: كلّ ما عوهد اللّه عليه، وكلّ ما بين العباد من المواثيق. والعهد: الّذي يكتب للولاة عند تقليدهم الأعمال، والجمع: عهود، وقد عهد إليه عهداً. والعهد: الموثق واليمين يحلف بها الرّجل. تقول: عليّ عهد اللّه وميثاقه، وأخذت عليه عهد اللّه وميثاقه. فالبيعة نوع من العهود.
5 - يختلف حكم المبايعة باختلاف المبايعين، فأهل الحلّ والعقد يجب عليهم بيعة من يختارونه للإمامة ممّن قد استوفى الشّروط الشّرعيّة لها. وأمّا سائر النّاس، فالأصل وجوب البيعة على كلّ واحد منهم بناءً على بيعة أهل الحلّ والعقد، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «من مات وليس في عنقه بيعة لإمام مات ميتةً جاهليّةً» ولكنّ المالكيّة ذهبوا إلى أنّه يكفي سائر النّاس أن يعتقدوا أنّهم تحت أمر الإمام المبايع، وأنّهم ملتزمون بالطّاعة له. هذا بالنّسبة للمبايعين من أهل الحلّ والعقد وسائر النّاس، أمّا من جهة المختار ليكون إماماً فيجب عليه قبول البيعة إن تعيّنت الإمامة، بأن لا يوجد غيره مستوفياً للشّروط، فإن كان المستوفون للشّروط أكثر من واحد، كان قبول البيعة فرض كفاية (وانظر مصطلح: الإمامة الكبرى، وأهل الحلّ والعقد). أدلّة مشروعيّة البيعة: 6 - مبايعة المسلمين للرّسول صلى الله عليه وسلم إنّما هي مبايعة للّه تبارك وتعالى، وذلك كما في قوله سبحانه: {إنّ الّذين يبايعونك إنّما يبايعون اللّه، يَدُ اللّه فوق أيديهم} فَيَدُه سبحانه في الثّواب فوق أيديهم في الوفاء، ويده في المنّة عليهم بالهداية فوق أيديهم في الطّاعة. والمراد بالمبايعة في الآية بيعة الرّضوان بالحديبية، وقد أنزل اللّه تعالى فيمن بايعه فيها قوله جلّ شأنه: {لقد رضي اللّه عن المؤمنين إذْ يبايعونك تحت الشّجرةِ فَعَلِمَ ما في قلوبِهم فأَنْزَلَ السّكينةَ عليهم وأَثَابهم فَتْحاً قريباً} وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: «كنّا يوم الحديبية ألفاً وأربعمائة، فبايعناه وعمر آخذ بيده تحت الشّجرة وهي سمرة. وقال: بايعناه على أن لا نفرّ، ولم نبايعه على الموت» وفي بيعة العقبة الأولى بايع المسلمون الرّسول صلى الله عليه وسلم على بيعة النّساء قبل أن تفرض عليهم الحرب. «فعن عبادة بن الصّامت رضي الله عنه، وكان شهد بدراً، وهو أحد النّقباء ليلة العقبة، أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال وحوله عصابة من أصحابه: بايعوني على أن لا تشركوا باللّه شيئاً، ولا تَسْرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفّى منكم فأجره على اللّه، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدّنيا فهو كفّارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً ثمّ ستره اللّه، فهو إلى اللّه، إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه. فبايعناه على ذلك» 7 - أمّا بيعة النّساء فقد بيّنت في قول اللّه تبارك وتعالى: {يا أيّها النّبيّ إذا جاءك المؤمناتُ يُبَايعْنك على أن لا يُشْرِكْنَ باللّه شيئاً ولا يَسْرقْن ولا يزنين ولا يقتلن أولادَهنّ ولا يأتين بِبُهْتانٍ يَفْترِينَه بين أيديهنّ وأرجلهنّ ولا يَعْصينَك في مَعْروف فبايِعْهنّ واستغفرْ لهنّ اللّهَ إنَّ اللّهَ غفور رحيم} ولمّا فتح رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مكّة جاءه نساء أهلها يبايعنه فأخذ عليهنّ: أن لا يشركن.. إلخ. ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كانت المؤمنات إذا هاجرن إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يمتحنّ بقول اللّه تعالى: {يا أيّها النّبيّ إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن باللّه شيئاً ولا يسرقن ولا يزنين}» إلى آخر الآية، قالت عائشة: فمن أقرّ بهذا من المؤمنات فقد أقرّ بالمحنة. وكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا أقررن بذلك من قولهنّ، قال لهنّ: انطلقن فقد بايعتكنّ ولا واللّه ما مسّت يد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يد امرأة قطّ، غير أنّه بايعهنّ بالكلام. قالت عائشة: واللّه ما أخذ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على النّساء قطّ إلاّ بما أمره اللّه عزّ وجلّ، وما مسّت كفّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كفّ امرأة قطّ، وكان يقول لهنّ إذا أخذ عليهنّ قد بايعتكنّ كلاماً». (أي دون مصافحة). وقالت أمّ عطيّة رضي الله عنها «لمّا قدم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم المدينة جمع نساء الأنصار في بيت، ثمّ أرسل إلينا عمر بن الخطّاب فقام على الباب، فسلّم، فرددن عليه السّلام، فقال: أنا رسول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إليكنّ: أن لا تشركن باللّه شيئاً فقلن: نعم. فمدّ يده من خارج البيت ومددنا أيدينا من داخل البيت ثمّ قال: اللّهمّ اشهد». وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا بايع النّساء دعا بقدح من ماء فغمس يده فيه، ثمّ أمر النّساء فغمسن أيديهنّ فيه». فبيعة رجال المسلمين للرّسول صلى الله عليه وسلم كانت بالمصافحة مع الكلام. أمّا بيعة نسائهم له صلى الله عليه وسلم فكانت بالكلام من غير مصافحة. قال النّوويّ في شرح مسلم، إنّ بيعة النّساء بالكلام من غير أخذ كفّ، وبيعة الرّجال بأخذ الكفّ مع الكلام. وحين تخوّف عمر بن الخطّاب الاختلاف بين المسلمين قال لأبي بكر: ابسط يدك يا أبا بكر، فبسطها، فبايعه، ثمّ بايعه المهاجرون، ثمّ بايعه الأنصار.
8 - إنّ موضوع بيعة الرّسول صلى الله عليه وسلم يقتصر على التزام المبايعين وتعهّدهم بالسّمع والطّاعة، وخاصّةً الالتزام بما بايعوا عليه، أمّا تعيينه صلى الله عليه وسلم للإمامة فإنّما كان ذلك بالوحي. وأمّا بيعة غيره فهي التزام من كلّ من الطّرفين، فهي من أهل الحلّ والعقد التزام للإمام بالسّمع والطّاعة والإقرار بإمامته، والتزام من المبايع بإقامة العدل والإنصاف والقيام بفروض الإمامة. ويترتّب عليها إذا تمّت على الوجه المشروع انعقاد الإمامة لمن بايعه أهل الحلّ والعقد، وأمّا سائر النّاس غير أهل الحلّ والعقد فعليهم أن يبايعوه بعد ذلك تبعاً لأهل الحلّ والعقد.
9 - البيعة عقد مراضاة واختيار لا يدخله إكراه ولا إجبار، وهو عقد بين طرفين أحدهما: أهل الحلّ والعقد. وثانيهما: الشّخص الّذي أدّاهم اجتهادهم إلى اختياره ممّن قد استوفوا شرائط الإمامة ليكون إماماً لهم. فإذا اجتمع أهل الحلّ والعقد للاختيار، وتصفّحوا أحوال أهل الإمامة الموجودة فيهم شروطها، فقدّموا للبيعة منهم أكثرهم فضلاً وأكملهم في تلك الشّروط، ومن يسرع النّاس إلى طاعته ولا يتوقّفون عن بيعته. فإذا تعيّن لهم من بين الجماعة من أدّاهم الاجتهاد إلى اختياره عرضوها عليه، فإن أجاب إليها بايعوه عليها، وانعقدت ببيعتهم له الإمامة، فلزم كافّة الأمة الدّخول في بيعته والانقياد لطاعته، وإن امتنع من الإمامة ولم يجب إليها لم يحبر عليها، وعدل عنه إلى من سواه من مستحقّيها.
10 - اختيار أهل الحلّ والعقد للإمام وبيعتهم له هي الأصل في انعقاد الإمامة، وأهل الحلّ والعقد هم العلماء وجماعة أهل الرّأي والتّدبير الّذين اجتمع فيهم العلم بشروط الأمانة والعدالة والرّأي. (ر: أهل الحلّ والعقد). أمّا انعقاد الإمامة بولاية العهد أو بالتّغلّب فينظر حكم ذلك في مصطلح (إمامة كبرى). وليس لمن كان في بلد الإمام على غيره من أهل البلاد فضل مزيّة يتقدّم بها على غيره في الاختيار، وإنّما صار من يحضر ببلد الإمام متولّياً لعقد الإمامة عرفاً لا شرعاً، لسبق علمهم بموته، لأنّ من يصلح للخلافة في الأغلب موجودون في بلده.
11 - اتّفق الفقهاء على أنّ الإمامة تنعقد بإجماع أهل الحلّ والعقد على المبايعة، وبمبايعة جمهور أهل الحلّ والعقد من كلّ بلد، وذهب بعض الفقهاء إلى أنّها لا تنعقد بأقلّ من ذلك، ليتمّ الرّضا به والتّسليم لإمامته. وقد روى البخاريّ عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه قال: «من بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الّذي بايعه». قال أبو يعلى: أمّا انعقاد الإمامة باختيار أهل الحلّ والعقد فلا تنعقد إلاّ بجمهور أهل الحلّ والعقد، قال أحمد في رواية إسحاق بن إبراهيم: الإمام الّذي يجتمع قول أهل الحلّ والعقد عليه، كلّهم يقول هذا إمام. قال أبو يعلى: وظاهر هذا أنّها تنعقد بجماعتهم. وقيل: تنعقد بأقلّ من ذلك. وممّن قال بعدم انعقادها إلاّ بجمهور أهل الحلّ والعقد المالكيّة والحنابلة، وقال المعتزلة بانعقادها بخمسة، وقال الشّافعيّة بانعقادها بالأربعة والثّلاثة والاثنين، وقال الحنفيّة بانعقادها بواحد، وانظر للتّفصيل مصطلح (إمامة كبرى).
12- كيفيّتها أن يقول كلّ من أهل الحلّ والعقد المبايعين لمن يبايعونه بالخلافة: قد بايعناك على إقامة العدل والإنصاف والقيام بفروض الإمامة. ولا يحتاج ذلك إلى صفقة اليد، وقد كانت البيعة على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وخلفائه الرّاشدين بالمصافحة، فلمّا ولي الحجّاج رتّبها أيماناً تشتمل على اليمين باللّه والطّلاق والعتاق وصدقة المال. وزاد ابن القيّم في إعلام الموقّعين: وبيعة النّساء بالكلام «وما مسّت يد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يد امرأة لا يملك عصمتها». وفي مبايعة أبي بكر رضي الله عنه حين تخوّف عمر بن الخطّاب رضي الله عنه الاختلاف بين المسلمين، قال لأبي بكر رضي الله عنه: ابسط يدك يا أبا بكر، فبسط يده فبايعه، ثمّ بايعه المهاجرون، ثمّ بايعه الأنصار. وحديث عائشة رضي الله عنها في بيعة النّساء، وأنّها كانت كلاماً من غير أن يضرب يده على أيديهنّ كما كان يبايع الرّجال.
13 - يحرم على المسلم إذا بايع الإمام أن ينقض بيعته أو يترك طاعته، إلاّ لموجب شرعيّ يقتضي انتقاض البيعة، كردّة الإمام ونحو ذلك من الأسباب الّتي تقدّم ذكرها في مبحث (الإمامة الكبرى) فإن نقض البيعة لغير ذلك فهو حرام، وقد ورد النّهي عنه في قول اللّه تعالى: {إنّ الّذين يبايعونك إنّما يبايعون اللّه يد اللّه فوق أيديهم، فمن نَكَثَ فإنّما يَنْكُثُ على نفسه ومن أَوْفى بما عاهَدَ عليهُ اللّه فسيؤتيه أجراً عظيماً} وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «من بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع».
انظر: معابد.
انظر: شهادات، إثبات.
|